والأهل والأوطان، ويشقى طول عمره من أجل المال، الجار يعادي الجار من أجل المال، الأخ يخاصم أخاه ويقاضيه من أجل المال، بل وصل الأمر إلى أن يقتل الولد أباه وأمه من أجل المال، وما الحروب بين الدول وقتل الآلاف ومئات الآلاف من البشر إلا من أجل الحاجة إليه، فحسب ابن آدم لقيمات تقمن صلبه، وما أكثر الذين يلهثون وراء المال وهم لا يحتاجونه، إنما حب المال وحب جمعه غرس في طبيعة الإنسان منذ خلق، يقول جل شأنه:{وتأكلون التراث أكلاً لماً وتحبون المال حباً جماً}[الفجر: ١٩، ٢٠]. {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث}[آل عمران: ١٤].
وحديثنا رقم (٢٨) يرسم صورة ندم الإنسان، وأسفه على ما أضاعه في سبيل المال يوم يفيض المال ويفقد قيمته وتنتهي الحياة أو تقرب، وتقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة، فيجيء القائل فيقول: في هذا قتلت. ويجيء القاطع فيقول: في هذا قطعت رحمي. ويجيء السارق فيقول: في هذا قطعت يدي، ثم يدعونه، فلا يأخذون منه شيئاً.
هذه حقيقة لا تحتاج إلى برهان، فحب المال في طبع الإنسان، لكن المؤمن مأمور بمحاربة معوجات الطبع لتوافق الشرع، وقد نبه الله إلى ذلك، وأرشد إلى العلاج من هذا الداء بأساليب كثيرة منها:
١ - آيات وأحاديث الترغيب في الإنفاق، التي سبق الكثير منها، وآيات وأحاديث الترهيب من البخل التي سبق الكثير منها، وجماعها قوله تعالى:{فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيراً لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون}[التغابن: ١٦]. وجماعها قوله صلى الله عليه وسلم:"تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش". رواه البخاري. وقد مر بنا قريباً حديث أبي ذر، حيث قال له صلى الله عليه وسلم:"إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة. إلا من أعطاه الله خيراً، فنفخ فيه يمينه وشماله، وبين يديه ووراءه، وعمل فيه خيراً"، رواه مسلم.
فعلى المؤمن أن يستخلص كل ذلك كجرعة أولى لعلاج هذا الداء.
الجرعة الثانية: أن يستحضر في كل حالاته أن الله تعالى هو المعطي، وهو قادر على المنع؛ وأن المال في يد الإنسان أمانة ووديعة، أذن مالكها جل شأنه في الانتفاع بها في حدود وبشروط وبواجبات، وعلى العاقل أن يعمل في الوديعة بما رسم له، ولا يتعدى حدوده، لقد أكثر جل شأنه التنبيه على هذه الحقيقة كلما طلب الإنفاق، يقول:{وآتوهم من مال الله الذي آتاكم}[النور: ٣٣]. {ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والأرض}[آل عمران: ١٨٠]. {آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه}[الحديد: ٧]. {لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله}[الطلاق: ٧]. {قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية}[إبراهيم: ٣١].