الجرعة الثالثة: أن يستحضر أن ما عنده من مال ليس نتيجة جهده وكفاحه وليس بقاؤه عنده نتيجة لذكائه ومهارته، فكم من الفقراء أصبح بين يوم وليلة من أغنى الأغنياء وكم من الأغنياء بات فأصبح يقلب كفيه على لا شيء، فقارون حينما قال: إنما أوتيته على علم عندي خسف به وبداره الأرض، {فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين}[القصص: ٨١].
وصاحب الجنتين، آتاه الله جنتين من أعناب، محفوفتين بنخل كثير، بينهما زرع وفير، وفجر جل شأنه خلالهما نهراً. وحين دخل جنته وهو ظالم لنفسه وقال: ما أظن أن تبيد هذه أبداً أرسل الله عليها حسباناً من السماء فأصبحت صعيداً زلقا، وأصبح ماؤها غوراً لا يستطيع له طلباً، وأحيط بثمره، فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها.
وأصحاب الجنة {إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم}[القلم: ١٧ - ٢٠].
الجرعة الرابعة: أن يستحضر الذي يجمع المال تأميناً لأولاده من بعده، أن يستحضر أن الله ربهم، وأنه إن شاء أغناهم من غير أن يترك أبوهم لهم، وإن شاء أفقرهم على الرغم من الكثير الذي تركه أبوهم لهم، وقد روى الطبراني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"نشر الله عبدين من عباده -أي بعثهما وأوقفهما للسؤال- وكان قد أكثر لهما في دنياهما المال والولد، فقال لأحدهما: أي فلان ابن فلان. قال: لبيك رب وسعديك. قال: ألم أكثر لك من المال والولد؟ قال: بلى. قال: وكيف صنعت فيما آتيتك؟ قال: تركته لولدي مخافة العيلة -أي الفقر- قال: أما إنك لو تعلم العلم -أي لو تعلم ما حصل لهم بعدك- لضحكت قليلاً، ولبكيت كثيراً، أما إن الذي تخوفت منه على أولادك قد أنزلته بهم. ويقول للآخر: أي فلان ابن فلان. فيقول: لبيك رب وسعديك. قال: ألم أكثر لك من المال والولد؟ قال: بلى، أي رب. قال: فكيف صنعت فيما آتيتك؟ قال: أنفقت في طاعتك، ووثقت لولدي من بعدي بحسن عطائك. قال: أما إنك لو تعلم العلم -أي لو تعلم ما حصل لهم بعدك- لبكيت قليلاً، ولضحكت كثيراً، أما إن الذي قد وثقت به قد أنزلته بهم".
الجرعة الخامسة: أن يضع بين عينيه أنه ليس له من ماله إلا ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو تصدق فأبقى، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه، ولن يأخذ معه مما يجمع سوى ثوب من قماش وقطعة من قطن، يقول الشاعر:
نصيبك مما تجمع الدهر كله ... رداءان تطوى فيهما وحنوط
ولمن يترك ما جمع؟ لورثته الأحباب منهم والأعداء، نعم والأعداء، فليس له رأي في ماله بعد أن يرحل عنه، وصدق الشاعر حين يقول:
وما الناس إلا جامع أو مضيع ... وذو نصب يسعى لآخر نائم
نعم: هو ذاهب وتارك كل ما يجمع، حقيقة مشاهدة، يصورها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: "يتبع الميت ثلاثة. فيرجع اثنان، ويبقى معه واحد، يتبعه أهله وماله وعمله. فيرجع أهله وماله، ويبقى معه