وقد ترجمنا نحن لمحمد الشاذلي القسنطيني فوجدناه شخصية مهزوزة إلى أبعد الحدود، وقد مثل دور القاضي الانتهازي بمعنى الكلمة، فثقافته بسيطة ومع ذلك ولاه الفرنسيون أخطر منصب عند احتلال قسنطينة وهو القضاء، وكان مقر عمله هو المكتب العربي الذي أنشأوه في المدينة تحت قيادة الضابط بواسونيه، وكان مع الشاذلي عدد من نواب القضاة، منهم المكي بن باديس ومحمد بن عزوز، كان الشاذلي مضطربا في تصرفاته، فقد مدح الأمير حتى دعاه لإنقاذ قسنطينة من الاحتلال، ثم شكر الفرنسيين على اعتقاله، وعينه الفرنسيون لمرافقة ومؤانسة الأمير بسجنه في امبواز (وربما التجسس عليه) فشغل نفسه بالزيارات والتردد على المسرح والتفكير في الزواج من فرنسية مجهولة الأصل، وكان يمدح الفرنسيين تملقا لا حبا، ويمدح قادتهم وبلادهم ومآثرهم ليجعلوه نصب أعينهم، وكان له طموح أبعد من إمكاناته، وفي ١٨٥١ أعفاه الفرنسيون من منصب القضاء وعينوه مديرا لمدرسة قسنطينة الشرعية - الفرنسية (الكتانية) حيث ظل مديرا ومدرسا بها إلى وفاته سنة ١٨٧٧ (١).
وقلما كان الفرنسيون يعينون القاضي في بلده أو جهته، سيما إذا كان معروفا والبلدة صغيرة، وهو تقليد جيد، لعله كان لحماية القاضي نفسه من جهة، وإبعاد خطره من جهة أخرى، ذلك أن كثيرا من القضاة كانت لهم مصاهرات وعلاقات اجتماعية يخشى منها الفرنسيون أن تؤدي إلى التجمع والغضب السياسي، وكان هدفهم أيضا منع نفوذ أهل المدينة الكبيرة بواسطة قضاتهم، ونحن نجد أمثلة على ذلك في توظيف الشاذلي في القضاء على قسنطينة، رغم أنه دخيل عليها، وكانت عائلة العباسي وعائلة ابن باديس وعائلة ابن جلول وغيرها من العائلات الحضرية المتجذرة أولى من عائلة الشاذلي في ذلك المنصب لو بقي الحكم في يد إلبايات مثلا، ويدخل في
(١) تفصيل حياته في كتابنا (القاضي الأديب: محمد الشاذلي القسنطيني)، ط ٢، ١٩٨٥. وكذلك المجلة الآسيوية J.A، العدد ٥، ص ١١٦ - ١١٨، والمجلة الشرقية والجزائرية، ج ١ (١٨٥٢). ص ٢٣٤ - ٢٤٤.