لقد جمعَتْ هذه الآيةُ الحكيمةُ بينَ " الإِحكامِ والنسخ " في رسالةِ
عيسى - عليه السلام -.
- الإِحكامُ في قوله: ((وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ) .
لقد كانَ عيسى - عليه السلام - مُصدِّقاً للتوراةِ ومُؤَيّداً لها في الجانبِ المحكَمِ منها الذي لا نَسخَ فيه، وهو الجانبُ الإِيمانى والأَخلاقيُّ والإِخْبارِيّ.
ومعلوم أَنه لا نَسخَ في العقائدِ أَو الأَخلاقِ أَو الأَخبارِ، فالإِنجيلُ موافقٌ تَماماً للتوراةِ النازلةِ على موسى - عليه السلام - في ذلك وهو لا يَعترفُ بأَسفارِ العهدِ القديمِ التي كَتبها الأَحبارُ ونَسبوها إِلى الله زوراً.
على هذا الجانبِ المحْكَم من التوراة نَحملُ الكلامَ الذي نَسَبَه الفادي
إِلى عيسى - عليه السلام - إِنْ صَحَّتْ نسبتُه له -! فهو لا يَنقضُ الناموسَ أَو الأَنبياء، وما جاءَ لينقضَ ما وردَ في التوراةِ بل ليُكَمّلَه ويُصَدّقَه، أَيْ: مسائلُ الإِيمانِ المذكورةُ في التوراةِ ثابتةٌ محكَمَة، لا نَسخَ لها، لا في الإِنجيلِ ولا في القرآن.
- والنسخُ في رسالةِ عيسى - عليه السلام - الموجهةِ إِلى بني إِسرائيلَ في قوله في الآية: (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) .
إِنَّ هذه الجملةَ صَريحةٌ في نَسْخِ الإِنجيلِ لبعضِ أَحكامِ التوراة، فقد
كانت بعض الأَشياءِ محرمةً على اليهود، وجاءَ عيسى - عليه السلام - ليُحِلَّ لهم تلك الأَشياءَ المُحرَّمة، وإِذا كانَ هذا لا يُسَمّى نَسْخاً فماذا يُسَمّى؟!.
ومن الدليلِ على وُقوعِ النسخِ في الشريعةِ اليهوديةِ نفسِها أَنَّ بعضَ
الأَشياءِ كانت مُباحةً لليهود، وشرعَ اللهُ إِباحتَها في التوراةِ النازلةِ على
موسى - عليه السلام -، ثم حَرَّمَ اللهُ عليهم تلك المباحات، عِقاباً لهم على ظُلمِهم وعُدوانِهم.
قال تعالى: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (١٦٠) .
كانت بعضُ الطيباتِ مُباحةً لليهود، وبعدما ظَلَموا وبَغَوا عاقَبَهم الله، فنسخَ إِباحتَها، وحَرَّمَها عليهم!.