{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ}[ص: ٢٤] , {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ}[آل عمران: ١٢٣] , {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}[البقرة: ٢٤٩] ... إلخ، تجدْ ذلك يكاد يكون مطردًا، وأنت إذا طالعت مصداق ذلك في شؤون الناس وأحوال الدعوات، وجدته صحيحًا مطردًا. فما من دعوة حق إلا كان أهلها قليلًا بالنسبة لمن يناوؤها من أهل الباطل والدهماء، ولكنك إلى جانب هذا تجد أن الغلبة دائمًا للقلة المحقة والنصر دائمًا إلى جانبها. وبذلك يتضح لك وجه الجمع بين ما سبق من وعد الله لدينه أن يظهره على الدين كله، مع تقرير أن أكثر الناس لا يؤمنون الإيمان الكامل الحق، ولو مع الحرص على ذلك، ومن ذلك تعلم أن قول ذلك العربي:(وإنما العزة للكاثر) لا يتمشى إلا إذا تساوت الفئتان في غير العدد من وسائل القوة وزادت إحداهما الكثرة، أما إذا يتميز أهل الحق من أهل الباطل فقد كتب الله الغلبة للمحقين مهما كان عدد خصومهم كثيرًا:{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}[الروم: ٤٧].
والسر في انصراف أكثر الناس عن الإيمان أن الإنسان تتجاذبه قوتان تحاول كل منهما أن تتغلب عليه وأن توجهه وجهتها: قوة الخير التي يؤازرها العقل ويرشدها الوحي ويقويها العمل الصالح، وقوة الشر التي تمدها الشهوات ويزينها الشيطان ويقود إليها الهوى، وتغري بها زخارف المادة وأعراض الحياة الدنيا ولذائذها، وتزداد ضراوة بالمعاصي والمخالفات.
ولما كان العقل والوحي وما إليهما من عالم النفس السامية الفاضلة، وكانت الشهوات والأهواء والزخارف المادية من عالم هذا الحس، وكان الإنسان ما دام في حياته الدنيا فهو إلى الحس أقرب وبه ألصق، ولا يقوى على مقاومة هذه الدوافع إلى الشر إلا بتوفيق رباني وإرادة قوية ومجاهدة دائمة وعزيمة صادقة، وهو ما يشق على أكثر النفوس، من هنا كان أكثر النوع الإنساني ماديًا دنيويًا إلا القليل الذي بلك عنان نفسه، وقوي على التصرف في عوالم حسه، واستعان بطاعة الله على تثبيت