للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وسرادقين- يعني: ستارتين- وحجلتين للصدر- يعني شخانتين (١) - وكلّ مرتبة ثماني قطع، ثمن ذلك خمسة آلاف دينار.

فأقبل كلّ [من] حضر يبالغ في صفته، إلّا ابن حميد فإنّه صار ساكتا، فلحظه الوزير. وطاف المجالس وا [ست] عرض كلّ ما أعدّه، وهو يقول: يزاد ههنا كذا، ويترك هنا كذا- ثمّ عدل إلى بيت الطهارة فدخله، وقد أعدّ في دهليزه من الفرش والآلات والطيب، وفي داخله من الفواكه والمشمومات كلّ مستحسن.

واستدعى ابن حميد منفردا، وجلس في دهليزه وقال: يا عمدة الملوك، ما لي لم أسمعك تؤمّن على ما قالته الجماعة؟

فاعتلّ بما لم يقبله الوزير، وألزمه أن يصدقه فقال: يا سيّدنا، عندي أحد رأيين: إمّا أن تأمر بإزالة هذه الفرش ونصب غيرها ممّا هو مستعمل، أوتحمله إلى الخليفة إذا انقضى جلوسه عليه.

فقال: وما هو هذا؟ أليس هو ممّا أنعم به وصار إليّ من فضله؟ وما قدره حتى تمتدّ عينه وتتطلّع نفسه له؟ أمّا إزالته ونصب غيره، فما كنت لأكسر نفس هذا الصبيّ، وإن أمرت بإزالته حزن وانكسرت نفسه، وقام.

[ ... كانت سببا لتنكّر الخليفة على اليازوريّ]

فحضر المستنصر وأقام يومه في الدار، وأحضر إليه ما [أ] عدّ له من الطّرف. وركب آخر النهار وعاد إلى قصره. وحضر خواصّ الوزير عنده على عادتهم، فانفرد بابن حميد وقال له: يا عمدة الدولة، والله ما أخطأ حزرك فيما قلته بالأمس:

منذ دخل الخليفة إلى الدار إلى أن خرج لم يطرف

طرفة عن تأمّل الفرش، فإذا وجّهت طرفي نحوه أطرق وتشاغل.

فقال: يا سيّدي، إذا فات الأمر الأوّل، فلا يفوت الثاني.

فقال: والله لا فعلت، ولا غممت صفيّ الملك بحرمانه إيّاه!

واتّفق أنّ ابن حميد دخل على الوزير في يوم بكرة، وقد قدّمت الدابّة إلى باب المجلس، فخرج ليركب، وعليه ثوب أسمر اللون مليح السمرة، فدنا منه ليصلح ثيابه لمّا ركب، وجعل يلمس الثوب. فسار الوزير وعاد فلمّا انقضت المائدة، قال لابن حميد: قد لحظتك اليوم تنظر الثوب الذي كان عليّ، فعجبت من ذلك. فلمّا مثلت بحضرة مولانا كنت بحيث جرت العادة. فأقبل يتأمّل الثوب، ولم يزل يزحف من الدّست حتّى قرب منّي. فتغافلت عنه، ولحظته وقد مدّ يده إلى الثوب ليلمسه، فقلت في نفسي: زال عجبي من عمدة الدولة إذا كان الخليفة على هذه الصفة، وهو ثوب ملحم (٢) خراسانيّ.

فقال: الملوك إذا أنعموا على أحد ممّن في دولتهم نعمة وتظاهر بها، استحال الإحسان والاصطناع حسدا ومللا.

[[خصاله الحميدة]]

وكان الوزير شريف الأخلاق، عالي الهمّة، كريم الطّباع، وطيء الأكناف، مستحكم الحلم (٣)، واسع الصدر، نديّ الوجه، يستقلّ الكثير ويستصغر كلّ كبير. فكان راتب مائدته في كلّ يوم كموائد الملوك في الأعياد والولائم.


(١) الحجلة: ضرب من الفرش: والشخانة لم نعرفها.
(٢) الملحم من الثياب: ما كان قماشه مصنوعا بلحمة من حرير.
(٣) في المخطوط: الحكم، والإصلاح من الاتّعاظ ٢/ ٢٤٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>