للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وقال الرشيد: أدخلت على المنصور وأنا صبيّ، فرأيته جالسا على حصير متّكئا على مسورة (١)، فدعا بعشرة دنانير جدد فوهبها لي وأخذني وقبّلني وصرفني.

وكان المنصور يخرج من مقصورة النساء ليلا يريد المسجد، ومعه جارية حبشيّة أو صفراء تحمل له سراجا.

وكان يقول: الملوك ثلاثة: معاوية، وكفاه زياد، وعبد الملك، وكفاه الحجّاج. وأنا، ولا كافي لي.

وكان يذكر بني أميّة فيقول: رجلهم هشام.

وكان يقول: الخلفاء أربعة، والملوك أربعة.

فالخلفاء: أبو بكر وعمر وعليّ، وعثمان على ما نال وقد نيل منه أعظم. والملوك: معاوية، وعبد الملك، وهشام وأنا. ولنعم الرجل كان عمر بن عبد العزيز! كان أعور بين عميان. ونعم صاحب الحرب حمار الجزيرة من رجل لم يكن عليه طابع الخلافة- يعني مروان بن محمد.

وأتى ابن ليوسف بن عمر (٢) المنصور فوصله بثلاثة آلاف درهم. فقال: يا أمير المؤمنين، أمّلت منك أكثر من هذا.

فقال: هذه كانت صلة أبيك لنا؟

فقال: يا أمير المؤمنين، فأين فضل قريش على ثقيف، وفضل الخلافة على الإمارة؟

فضحك وأمر له بعشرة آلاف درهم.

وقال المنصور: معاوية للحلم والأناة، وعبد الملك للإقدام والإحجام، وهشام لتقسيط الأمور ووضعها مواضعها. وشاركت عبد الملك في قول

كثيّر [الطويل] (١*):

يصدّ ويغضي، وهو ليث عرينة ... وإن أمكنته فرصة لا يقيلها

وقال: إنّ الحلم يزيد العزيز عزّا والذليل ذلّا.

وقال لسفيان بن معاوية: ما أسرع الناس إلى قومك!

فقال [البسيط]:

إنّ العرانين تلفاها محسّدة ... ولن ترى للئام الناس حسّادا

قال: صدقت.

وبينا المنصور يخطب إذ قام رجل فقال:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) [الصفّ: ٢] فأخذ. فلمّا قضى المنصور صلاته ودخل القصر دعا به فقال: طالت صلاتك وكثر صومكفضجرت من الحياة وقلت: أعترض هذا الرجل فأعظه، فإن قتلني دخلت الجنّة، وهيهات أن تدخلها بي! خلّوا سبيله!

وخطب في بعض الجمع فقام رجل من الصوفيّين فقال: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة: ٤٤] فأخذ. فلمّا فرغ من خطبته أمر أن يضرب أربعين درّة فضرب. ثم دعا به فقال: «إنّا لم نضربك لقولك، إنّما ضربناك لكلامك في الخطبة، فلا تعد! » وأمر بتخلية سبيله.

وخطب مرّة فلمّا قال [٩١ أ]: «وأشهد ألّا إله إلّا الله»، قام إليه رجل في أخريات الناس فقال: يا أمير المؤمنين، إنّي أذكّرك من ذكرت.

فقال: «سمعا سمعا لما ذكّر بالله وأيّامه! وأعوذ بالله أن أكون جبّارا عنيدا وأن تأخذني العزّة


(١) المسورة: متّكأ من جلد.
(٢) يوسف بن عمر الثقفيّ: ولي العراقين لبني أميّة سنة ١٢٠. الوفيات (٨٤٣) ٧/ ١٠١.
(١*) ديوان كثيّر: ٢٦١ بيت ١٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>