للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

فقد استحييت ممّا جرى عليّ اليوم.

(قال) فتركته وتردّدت إلى الشيخين أبي بكر محمد بن عبد الملك الشنتريني وأبي عمرو عثمان بن عليّ الصقلّي، ولي خمس عشرة سنة، فكنت أقرأ عليهما وأعلم إلى أن صرت إلى ما ترون.

وكانت عنايته تامّة في تصحيح الكتب، قلّما ملك كتابا إلّا وصحّحه وأتقنه.

وكان مع ما آتاه الله من العلم ساذج الطباع في أمور الدنيا مبارك الصحبة ميمون الطلعة. وفيه تغفّل عجيب يستبعد من سمعه أن يجتمع في رجل متين العلم. وكانت ثيابه وسخة. وله في التغفّل أخبار شائعة بمصر: منها أنّه اشترى خبزا ولحما وبيضا وحطبا وجعل الجميع في كمّه [١٨٧ أ] وأتى منزله. فوجد أهله قد مضوا لبعض شأنهم، وباب الدار مغلق. فألقى من كوّة تفضي إلى الدار جميع ما في كمّه، ولم يفكّر في تكسير البيض وأكل السنانير اللحم والخبز إذا خلت به.

واشترى مرّة عنبا وجعله في كمّه ومشى وهو يحادث شخصا ويعبث بالعنب حتى تخبّص وجرى ماؤه على رجليه. فالتفت إلى الرجل وقال: أجاء المطر؟

فقال: لا.

فقال: فما هذا الذي ينقط على رجلي؟

فتأمّله الرجل فإذا هو ماء العنب. فلمّا أخبره بذلك خجل.

ويحكى عنه من الحذق في العلم وحسن [الجواب عمّا يسأل عنه ما] يعجب منه.

وكان لا يتكلّف في كلامه ولا يتقيّد بالإعراب بل يسترسل في حديثه كيف اتفق حتّى قال مرّة لبعض تلاميذه: اشتر لي هندبا (١*) بعروقو.

فقال له التلميذ: هندبا بعروقه؟

فعزّ عليه كلامه وقال له: لا تأخذه إلّا بعروقو، وإن لم يكن بعروقو فلا تأخذه.

وهكذا كان كلامه، لا يكترث بما يقوله ولا يتوقّف على إعراب.

وكان له أخ قد اشتهر بالأبنة عند الخاصّ والعامّ. فجاء في بعض الأيام إلى الشيخ شخص وقال له: أنت ابن برّيّ البغّاء؟

فاستحيى وقال: ذاك أخي! ذاك أخي!

وفيه يقول بعضهم [الكامل]:

نظر ابن برّيّ إلى زبدة ... فهوى ليأخذها هويّ الأجدل

لو كان يعطى في الغداء لخبزها ... ما كان يأخذه لترك الأوّل (٢*)

وكان الشيخ قليل التصنيف، [و] إنّما يكتب حواشي على الكتب فأفردت. ولو كمّل حواشي الصحاح لكان عجبا. وإنّما وصل في حواشي الصحاح إلى «وقش» من باب الشين المعجمة، وكان ذلك مجلّدين، وهي ربع الكتاب. وكمّل عليه الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن البسطيّ إلى آخر الكتاب، فجاءت التكملة في ستّ مجلّدات وكان جملة هذا المصنّف ثماني مجلّدات بخطّ البسطي. واسم هذا الكتاب: «التنبيه والإيضاح عمّا وقع في كتاب (٣*) الصحاح» وهو كتاب جيّد إلى الغاية.

وتوفّي من مرض الإسهال في ليلة السبت السابعة والعشرين من شوّال سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة، ودفن بالقرافة.


(١*) الهندب: نبت يعمل سلطة مع الحوامض والتوابل.
(٢*) لم نهتد إلى قراءة صحيحة للبيتين.
(٣*) في المخطوط: في حواشي.

<<  <  ج: ص:  >  >>