وكانت البرجيّة أتباع بيبرس الجاشنكير قد قامت قياما كبيرا في إخراج السلطان إلى الكرك، وسلطنة بيبرس. فما زال سلّار يتلطّف بهم حتّى كفّوا عن ذلك.
فأقام منحصرا إلى أن دخلت سنة ثمان وسبعمائة، [ف] عدّى السلطان النيل إلى برّ الجيزة، وأقام يتصيّد عشرين يوما. وعاد إلى قلعة الجبل وقد اشتدّ خناقه وقوي تحكّم بيبرس وسلّار عليه، ومنعاه التصرّف في شهوات نفسه من المأكل والمشرب لقلّة ما رتّب له. فلمّا عيل صبره، أخذ يدبّر في الخلاص، وأظهر أنّه يريد الحجّ لقضاء الفرض، ومعه حريمه. وحدّث بيبرس وسلّار في ذلك، فسألاه المهلة بالجواب حتى يستخيرا الله. وخرجا من عنده فجمعا خواصّهما وأعلماهم الخبر. فأعجب البرجيّة هذا ليتمكّنوا بخروجه من إقامة بيبرس في السلطنة، وحسّنوا له تمكينه من السفر، وهوّنوا عنده أمره وأنّه ماذا عساه يخرج من يده؟ - ونحو ذلك، إلى أن مال إلى قولهم، وأذن للسلطان في الحجّ، وشرع هو وسلّار في تجهيز ما يحتاج إليه. وكتب لآقوس نائب الشام ولغيره بتجهيز الإقامات.
وتمادى الأمر إلى العشرين من شهر رمضان منها.
فقدّم الأمراء تقادمهم من الخيل والجمال بحسب مقدار كلّ منهم، فقبل تقادمهم، وركب في خامس عشرينه من قلعة الجبل، ومعه الأمراء وسائر العسكر، يريد السفر. وخرج الناس من كلّ جهة، وتباكوا حوله أسفا على فراقه، إلى أن نزل بركة الحاجّ. فودّعه الأمراء وعادوا. ورحل من ليلته ومعه من الأمراء [٩٥ ب] أيدمر الخطيري الأستادار، وآل ملك الجوكندار، وقرا لاجين أمير مجلس، وبلبان أمير جندار، وأيبك الروميّ أمير سلاح، وبيبرس الأحمديّ، وسنجر الجمقدار، ويقطاي الساقي، وسنقر السعديّ نقيب المماليك، وخمسة وسبعون مملوكا.
وعرّج من طريق الحجاز إلى جهة الصالحيّة بدرب الشام وعيّد بها. ورحل إلى الكرك فقدمها يوم الأحد عاشر شوّال، فاستقبله الأمير جمال الدين آقوش الأشرفيّ، المعروف بنائب الكرك، وقام من خدمته بما يجب. فعبر السلطان القلعة من باب السرّ على فرسه، وقد مدّ له الخشب (١)، وكان له مدّة ما مدّ. فلمّا تقدّمت الدوابّ بالأثقال وعبرت الفرسان، فعند ما تعدّت يدا فرس السلطان الجسر انكسر، فسقطت رجلا الفرس، ولم يبق إلّا أن يسقط في الخندق. فجذب عنان الفرس حتى سار به خارج الجسر وهو سالم. وسقط بعض الأمراء والمماليك من ورائه. واستقرّ السلطان بقلعة الكرك سالما. فتباشر الناس بقدومه وسلامته بعد ما أشفى على الهلاك.
فلمّا اطمأنّ استدعى الأميرين أيدمر الخطيري وآل الملك، وعرّفهما أنّه قد بطل عزمه على الحجّ واختار الإقامة بالكرك ليخلو أسره ويستريح، وأنّه نزل عن السلطنة. فبكيا وقاما ووقعا يقبّلان الأرض ويسألانه الرجوع عن هذا، وكشفا رءوسهما يتضرّعان إليه، فلم يصغ إلى قولهما، واستدعى علاء الدين [علي] بن أحمد ابن الأثير الموقّع- وكان قد سافر معه- وأمره أن يكتب إلى الأمراء بالسلام عليهم، وأنّه عرض له ما منعه من الحجّ فأقام بالكرك، وليس له رغبة في ملك مصر، فليقيموا فيه من يختارونه، فإنّي نزلت عنه من غير إكراه ولا إجبار- وسأل أن يتصدّق عليه بالكرك والشوبك. فكتب الكتاب، وخلع السلطان