للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وقال أبو العيناء: كان أبو عبد الله أحمد بن أبي دواد شاعرا مجيدا فصيحا بليغا. وما رأيت رئيسا أفصح منه ولا أفطن منه. وما رأيت في الدنيا أحدا أحرص على أدب منه:

وذلك أنّي ما خرجت من عنده يوما قطّ فقال:

«يا غلام، خذ بيده! »، بل كان يقول: «يا غلام، اخرج معه! » (١) فكنت أفتقد هذه الكلمة عليه فلا يخلّ بها، ولا أسمعها من غيره.

وقال محمد بن عمرو الروميّ: ما رأيت قطّ أجمع رأيا ولا أحضر حجّة من أحمد بن أبي دواد: قال له الواثق: يا أبا عبد الله، رفعت إليّ رقعة فيها كذب كثير عليك.

فقال: ليس بعجب أن أحسد على منزلتي من أمير المؤمنين فيكذب عليّ!

قال: زعموا فيها أنّك ولّيت القضاء رجلا ضريرا.

قال: قد كان ذاك، وأمرته أن يستخلف، وكنت عزمت على عزله حين بلغني أنّه أصيب ببصره، إلى أن بلغني أنّه عمي من بكائه على أمير المؤمنين المعتصم، فحفظت له ذلك.

قال: وفيها أنّك أعطيت شاعرا ألف دينار- يعني أبا تمّام الطائيّ.

قال: ما كان ذلك، ولكن أعطيته دونها، وقد أثاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم كعب بن زهير الشاعر، وقال في آخر: «أقطع عنّي لسانه! » وهذا شاعر طائيّ مدّاح لأمير المؤمنين، مصيب، محسن. لو لم أرع له إلّا قوله للمعتصم، صلوات الله عليه، في أمير المؤمنين أعزّه الله [الكامل]:

فاشدد بهارون الخلافة، إنّه ... سكن لوحشتها ودار قرار

... ولقد علمت بأنّ ذلك معصم ... ما كنت تتركه بغير سوار (٢)

فوصل الواثق أبا تمّام بخمسمائة دينار.

ودخل أبو تمّام على أحمد بن أبي دواد فقال له: يا أبا تمّام، أحسبك غائبا؟

قال: إنّما نغيب على واحد، وأنت الناس جميعا. فكيف نغيب عليك؟

فقال: من أين هذا؟

قال: من قول الحاذق- يعني أبا نواس-[السريع]:

وليس لله بمستكثر ... أن يجمع العالم في واحد

وله فيه وقد شرب دواء [١٢٣ ب] [المنسرح]:

أعقبك الله صحّة البدن ... ما هتف الهاتفات في الغصن

كيف وجدت الدواء أوجدك اللّ ... هـ شفاء به مدى الزمن

لا نزع الله منك صالحة ... أبليتها من بلائك الحسن

لا زلت تزهى بكلّ عافية ... تجتثّها من معارض الفتن

إنّ بقاء الجواد أحمد في ... أعناقنا منّة من المنن

لو أنّ أعمارنا تطاوعنا ... شاطره العمر سادة اليمن

وقال فيه [الوافر]:

لقد أنست مساويء كلّ دهر ... محاسن أحمد بن أبي دواد


(١) أبو العيناء أعمى.
(٢) ديوان أبي تمّام ٢/ ٢٠٥ بيتا ٥٢ و ٥٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>