تفقّه في صباه على مذهب مالك، ودرس في مدرسة جدّه، وكان ذكيّا فاضلا، إلّا أنّه تجرّد، واستعمل حشيشة الفقراء، فكثر هذره، وزادت رعونته، وصار يركب في قفص حمّال على رأس إنسان، وقد لبس ثوبا أزرق بلغ ركبتيه، وأخذ بيده مدية صغيرة، ووضع إلى جانبه قرطاس حلوى، وهو يأكل منها، ويدور به في مواضع النزه وغيرها. فإذا رأى أميرا أو رئيسا قال: «أعطني مائة، أعطني كذا! » فلا يخالفه.
وكان يعمّم رأسه بشرطوط (١) دقيق طويل جدّا، ويعاشر الأراذل، ويلبس قميصا أزرق، ويمشي تارة وبيده عكّاز. وكان يصحب الفارس أقطاي فيركب معه النيل للنزهة، وربّما ركب بيبرس معهما قبل سلطنته. وكان يجرّد الأكابر، وكان الحمّالون يبادرون إلى حمله ويستبقون له، من أجل أنّه مهما فتح عليه به، أجزل منه نصيب الحمّال.
وله نوادر كثيرة، منها أنّ الملك الظاهر ركب بعد سلطنته إلى الميدان قبل عمارة قناطر السباع، وكان ممرّه على باب زويلة إلى باب الخرق، وقد قام ابن الصاحب على حانوت صيرفيّ. فعند ما حاذاه السلطان ضرب بمفتاح عنده على خشبة ضربا مزعجا. فالتفت السلطان فرآه فقال: هاه! علم الدين!
فقال: إيش علم الدين؟ أنا جيعان.
فرسم له بثلاثة آلاف درهم.
وحضر يوما بعض المدارس، والنقيب يقول:
باسم الله، فلان الدين القليوبي؟ باسم الله فلان الدين الدمنهوري، [١٦٣ أ] باسم الله فلان الدين المنوفيّ، باسم الله فلان الدين البهنسيّ!
فقال: ويلك! هذه مدرسة، وإلّا مدقّ كتّان؟ - يعني أن الذين ذكرهم فلّاحون.
وحضر مرّة الدرس، وهم يبحثون في شيء قد خبطوا فيه. فقام وجلس وسط الحلقة كأنّه يبول.
فقيل له: ما هذا؟
فقال: لا بأس بالرجل يبول بين غنمه وبقره.
ودخل يوما المدرسة فسمعهم يغتابونه، فجاء ليبول عليهم، فقالوا: ما هذا؟
فقال: كلّ ما أكل لحمه فبوله طاهر.
وقال له الأمير علم الدين شيخ الشجاعي لمّا بنى القبّة المنصوريّة: أيّما أحسن، هذه أو المدرسة الظاهريّة؟
فقال: هذه مليحة، إلا أنّ الذي يصلّي في الظاهريّة يبقى جحره في وجه الذي يصلّي في مدرستكم.
وكان بمصر رجل يجرّد الناس، ويقال له:
زحل. فبينا ابن الصاحب يزن دراهم ثمن حلوى اشتراها إذا بزحل أقبل، فقال للحلاويّ: أعطني الدراهم، ما بقي لي حاجة بالحلوى ..
فقال: لم؟
قال: أما ترى زحل قارن المشتري في الميزان؟
وقال مرّة لامرأة ركبت حمارا ودخل الهواء في إزارها. فقال: والله ما ذي إلّا قبّة!
فقالت: كيف لو رأيت الضريح!
فأخرج أيره وقال: كنت أهدي له هذه الشمعة نذرا.
وكان إذا رأى الصاحب بهاء الدين ابن حنّا يقول:
اشرب وكل وتهنّا ... لا بدّ أن تتعنّى
(١) شرطوط: خرقة قماش.