وجميع ذلك لا يتمشى على القواعد، فإن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دل ذلك على أن لها أصلًا، وقد ذكرت أن ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح، وهي مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل، وكذا من لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض.
وإذا تقرر ذلك تعين تأويل ما وقع فيها مما يستنكر، وهو قوله:"ألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى"، فإن ذلك لا يجوز حمله على ظاهره, لأنه يستحيل عليه - صلى الله عليه وسلم - أن يزيد في القرآن عمدًا ما ليس منه، وكذا سهوًا إذا كان مغايرًا لما جاء به من التوحيد لمكان عصمته.
وقد سلك العلماء في ذلك مسالك، فقيل: جرى ذلك على لسانه حين أصابته سنة، وهو لا يشعر، فلما علم بذلك أحكم الله آياته، وهذا أخرجه الطبري عن قتادة، ورده عياض بأنه لا يصح لكونه لا يجوز على النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك ولا ولاية للشيطان عليه في النوم.
وقيل: إن الشيطان ألجأه إلى أن قال ذلك بغير اختياره، ورده ابن العربي بقوله تعالى حكايته عن الشيطان:{وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ}(١) الآية، قال: فلو كان للشيطان قوة على ذلك لما بقي لأحد قوة في طاعة.
وقيل: إن المشركين كانوا إذا ذكروا آلهتهم وصفوهم بذلك، فعلق ذلك بحفظه - صلى الله عليه وسلم -، فجرى على لسانه لما ذكرهم سهوًا، وقد رد ذلك عياض فأجاد.
وقيل: لعله قالها توبيخًا للكفار، قال عياض: وهذا جائز إذا كانت هناك قرينة تدل على المراد، ولا سيما وقد كان الكلام في ذلك الوقت في الصلاة جائزًا، وإلى هذا نحا الباقلاني.
وقيل: إنه لما وصل إلى قوله: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} خشي المشركون أن