ويمكن الجواب عن الثاني بأنه لما علم تخصيصه بالأكل، والأكل لا يتحقق عرفًا إلَّا بالنضيج، ولا يُؤْكل نيئه عادة، فيختص حكم وجوب الوضوء بالنضيج ضرورة، والله أعلم، واحتج القائلون بالنقض بهذا الحديث وبأمثاله.
وأما القائلون بعدم النقض فاحتجوا بحديث جابر - رضي الله عنه - الذي أخرجه الأربعة (١) أنه قال: "كان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك الوضوء مما مست النار" أي تحقق الأمران: الوضوء والترك، وكان الترك آخر الأمرين، فارتفع الوضوء أي وجوبه.
ولهذا قال الترمذي: وكأن هذا الحديث ناسخ للحديث الأول حديث الوضوء مما مسّت النار، ولما كانت لحوم الإبل داخلة فيما مسّت النار، وكانت فردًا من أفراده، ونُسِخ وجوبُ الوضوء عنه بجميع أفراده، استلزم نسخ الوجوب عن هذا الفرد أيضًا.
فما قال النووي: لكن هذا الحديث عام، وحديث الوضوء من لحوم الإبل خاص، مندفع, لأنا لا نسلم كونه منسوخًا بحيث إنه خاص، بل لأنه فرد من أفراد العام الذي نسخ، فإذا نسخ العام وهو وجوب الوضوء مما مست النار نسخ جميع أفرادها، ومن أفرادها أكل لحوم الإبِل التي مسته النار، ولو سُلِّمَ كونها خاصًّا، فالعام والخاص عندنا قطعيان متساويان، لا يقدم أحدهما على الآخر، فعلى هذا العام ينسخ الخاص أيضًا.
واعلم أن الشوكاني ذكر ها هنا قاعدة تَبَجَّحَ بذكرها، وحاصلها: أن أحاديث الأمر بالوضوء من لحوم الإبِل لم تشمل النبي - صلى الله عليه وسلم - لا بالتنصيص
(١) أخرجه أبو داود (١٩٢)، والترمذي (١/ ١٢٠)، وسنن النسائي (١٨٥)، والبيهقي (١/ ١٠٦).