ضاقت به صدورهم {ما تدعوهم إليه} أيها النبي الفاتح الخاتم من الاجتماع أبداً على ما اجتمعوا عليه وقت الاضطرار من وحدانية الواحد القهار، فلأجل كبره عليهم هم يسعون في تفرقكم فإن تفرقتم كنتم تابعتم العدو الحسود وخالفتم الولي الودود.
ثم نبه تعالى على أن الأمور كلها بيده بقوله تعالى:{الله} الذي له مجامع العظمة ونفوذ الأمر {يجتبي} أي: يختار {إليه} أي: إلى هذا الدين الذي تدعوهم إليه {من يشاء} اجتباءه {ويهدي إليه} بالتوفيق للطاعة {من ينيب} أي: من يقبل إلى طاعته.
ولما بين تعالى أمر كل الأنبياء عليهم السلام والأمم بالأخذ بالدين المتفق عليه كأن لقائل أن يقول: فلماذا نجدهم متفرقين؟ أجاب بقوله تعالى:
{وما تفرقوا} أي: المشركون من قبلكم من أهل الكتاب وغيرهم {إلا من بعد ما جاءهم العلم} أي: بالتوحيد أو بمبعث الرسول صلى الله عليه وسلم أو بأن التفرق ضلال متوعد عليه {بغياً بينهم} أي: فعلوا ذلك للبغي وطلب الرياسة فحملتهم الحمية النفسانية على أن ذهبت كل طائفة إلى مذهب ودعوا الناس إليه وقبحوا ما سواه طلباً للذكر والرياسة، فصار ذلك سبباً لوقوع الاختلاف، ثم أخبر تعالى أنهم استحقوا العذاب بسبب هذا الفعل إلا أنه تعالى أخر عنهم العذاب لأن لكل عذاب عنده أجلاً مسمى، أي: وقتاً معلوماً وهذا معنى قوله تعالى: {ولولا كلمة} أي: لا تبديل لها {سبقت} أي: في الأزل {من ربك} أي: المحسن إليك بجعلك خير الخلائق وإمامهم بتأخيرهم {إلى أجل مسمى} ضربه لآجالهم ثم يجمعهم في الآخرة {لقضي} على أيسر وجه وأسهله {بينهم} حين الافتراق بإهلاك الظالم وإنجاء المحق، قال ابن عباس: والذين أريدوا بهذه الصفة هم اليهود والنصارى لقوله تعالى في آل عمران: {وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم}(آل عمران: ١٩)
وقوله تعالى في سورة لم يكن:{وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة}(البينة: ٤)
وكذلك في قوله تعالى:{وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم}(الشورى: ١٤)
أي: المتفرقين هم اليهود والنصارى الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل: هم هذه الأمة الذين أورثوا القرآن. ولما نسخ كتابهم ما تقدمه كان غيرهم كأنه مات فورثوه كما قال تعالى:{ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا}(فاطر: ٣٢)
فكان حالهم في تمكنهم من التصرف في الكتاب بالحفظ والفهم وعدم المنازعة في ادعائه حال الوارث والموروث منه {لفي شك منه} أي: من كتاب لا يعلمونه كما هو لا يؤمنون به حق الإيمان، أو من القرآن فيقولون إنه سحر وشعر وكهانة ونحو ذلك، وقيل: في شك من محمد صلى الله عليه وسلم وجرى على ذلك الجلال المحلي {مريب} أي: موقع في التهمة.
{فلذلك} أي: التوحيد {فادع} يا أشرف الخلق والناس {واستقم} أي: على الدعوة {كما أمرت} أي: أمرك الله تعالى {ولا تتبع} أي: بعمل {أهواءهم} في شيء ما، فإن الهوى لا يدعو إلى خير، والمقصود من كل أحد أن يفعل ما أمر به {وقل} لجميع أهل الفرق وكل من يمكن له القول فإنك أرسلت إلى جميع الخلق {آمنت بما أنزل الله} أي: الذي له العظمة الكاملة {من كتاب} أي: جميع الكتب المنزلة لا كالكفار الذين آمنوا ببعض وكفروا ببعض، روي أن رجلاً أتى علياً فقال: يا أمير المؤمنين ما الإيمان