للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

"اعلم أن تأخرَ الشعراء عن رتبة البلغاء موجِبُهُ تأخرُ المنظوم عن رتبة المنثور عند العرب لأمرين: أحدُهما أن ملوكَهم قبل الإسلام وبعده كانوا يتبجحون بالخطابة والافتنان فيها، ويَعُدُّونها أكملَ أسبابِ الرئاسة وأفضل آلات الزعامة. فإذا وقف أحدُهم بين السماطين لحصول تنافر أو تضاغن أو تظالم أو تشاجر، فأحسن الاقتضابَ عند البداهة، وأنجع في الإسهابِ وقت الإطالة، أو اعتلى في ذروة منبر فتصرف في ضروب من تخشين القول وتليينه، داعيًا إلى طاعة، أو مستصلحًا لرعية، أو غير ذلك مما تدعو الحاجة إليه، كان ذلك أبلغ عندهم من إنفاق مال عظيم وتجهيز جيش كبير" (١)

ابتدأ المبحثَ بالتفضيل بين الكلام النثر والنظم، وبنى تأخرَ الشعراء عن رتبة الخطباء والكتاب على أساس تأخر المنظوم على رتبة المنثور، فأثار مبحثًا قديمًا خاض فيه الأدباء. وقد احتفل به ابن الأثير في كتابه "الجامع الكبير" فقال: "اعلم أن الأقوال متعارضة في تفضيل كل واحد من هذين القسمين على الآخر، إلا أن المذهب الفحل والقول القوي هو أن الكلامَ المنثور أفضلُ من الكلام المنظوم. . ." إلخ (٢).

وأقول: إن مناطَ التفاضل وموضوعَه إنما هو النثرُ الخاصُّ الذي يُقصد منه تأثُّرُ السامع وإقناعُه بغرض، وذلك هو النثر الذي يُصاغ في قالب البلاغة والفصاحة، كالخُطَب والرسائل والأمثال والقصص التي يُقصد حفظُها والتأدبُ بها، والأحاجي والنكت المستطْرَفَة، فيقصد واضعوها التأنقَ فيها لتكون أبقَى في ذهن السامع. فليس من موضوع التفاضل ما يجري بين الناس من المخاطبات في الشؤون المعتادة والمحادثات العادية، ولا نحو كتابة ديوان الجند وكتابة الأموال.


(١) نشرة هارون، ج ١، ص ١٦.
(٢) ابن الأثير: الجامع الكبير، ص ١٩٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>