والمؤلف بنى تفضيلَ النثر على ما حفَّ بصناعته من العوارض العُرفية والدينية، وذكر لتفضيل النثر على الشعر سببين وعزَّزَهما بثالث، وابن الأثير ذكر أربعةَ أسباب، واثنان منها يتداخلان مع ما ذكر المؤلف، واثنان منها محلُّ نظر، وما ذكره المؤلفُ أمتن (١).
وقول المؤلف:"عن رتبة البلغاء"، أراد بالبلغاء غيرَ الشعراء؛ لأن الشعراءَ وإن كانوا من أهل البلاغة، إلا أنهم لَمَّا كان لصناعة الشعر اسمٌ خاص من بين الكلام البليغ، شاع إطلاقُ وصف الشعراء عليهم، وبقيَ وصفُ البلغاء مطلقًا على من عداهم من الخطباء والكتاب، وهو إطلاقٌ قديم مشهور، ومنه قولُ أبي العلاء المعري:
(١) قال ابن الأثير عقب كلمته التي ذكرت آنفًا: "والدليل على ذلك من أربعة وجوه. الأول: أن القرآن ورد نثرًا، وهو معجزة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومن المعلوم أن المعجزات لا تجيء إلا من طريق الأصعب. ولما كان النثر من الأقوال الشاقة، أنول الله القرآن الذي هو معجزة على قانونه، وأيضًا فإن أرباب النثر لو أريد حصرهم من أول الزمان إلى وقتنا هذا، لكانوا عددًا يسيرا. وأما أرباب النظم فلو أريد حصرهم، بل حصر أهل عصر واحد منهم، لتعذر حصولُ ذلك. الوجه الثاني: أن النثر ينوب مناب النظم، ولا ينوب النظم مناب النثر. وذلك أنه إذا أخذ معنى وعبر عنه بلفظ من الكلام المنثور، فإنه لا يمكن التعبير عنه بمقدار ذلك اللفظ بالشعر؛ لأن الشعر يحتاج إلى إقامة الوزن، وهذا لا يتم إلا بزيادة لفظ أو نقصان لفظ، وإذا زِيدَ صار من الكلام ما لا حاجةَ إليه، وإذا نقص صار المعنى ناقصًا. الوجه الثالث: أن النثر لا يُنال إلا بعد تحصيل آلاته المذكورة في صدر كتابنا هذا أو بعضها، وذلك بخلاف النظم فإنه يقوله من لم يحصل من آلاته شيئًا. قلت: ومما يدلك على أن النثر أشق من النظم مأخذًا، أن العرب كانوا أفصح الناس وأكثرهم قدرة على التفنن في الكلام، ومع هذا لم فلم يسمع لأحد منهم نثرٌ إلا لقس بن ساعدة ولأقوام آخرين وهم قليل. وأما النظم فإن جميع العرب كانوا يقولونه. الوجه الرابع: أن الناثر تعلو درجته حتى ينال الوزارة للخلفاء والملوك، وأما الشاعر فلا تعلو درجته عن رتبة المستعطين". - المصنف. ساق المصنف كلام ابن الأثير باختصار. الجامع الكبير، ص ١٩٧ - ٢٠٠.