للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قراء الكوفة والبصرة وبعض أهل مكة بوصل الألف من الأشرار (اتّخذناهم)، فالتقدير: (مِنَ الأشرارِ اتّخذناهم) بحذف الألف في الوصل. قال ابن جرير: (وكل استفهام بمعنى التعجب والتوبيخ فالعرب تستفهم فيه أحيانًا وتُخْرجه على وجه الخبر أحيانًا. قال: والثانية أولى بالوصل على غير الاستفهام لتقدم الاستمْهام بقوله: {مَا لَنَا لَا نَرَى} فيصير (أتخذناهم) بالخبر أولى وإن كان للاستفهام وجه بمعنى التعجب. قال: وكان بعض أهل العلم بالعربية من أهل البصرة يقول: من كسر السين من السُّخريّ فإنه يريد به الهُزء يريد يسخر به، ومن ضمها فإنه يجعله من السُّخْرة يستسخِرونهم: يستذَلونهم).

وهذه الأوجه المختلفة من التأويل محتملة واردة يحتملها المجاز والإعجاز، وهي رائعة في مدلولها وآفاقها مفادها جميعًا بأنَّ الطغاة سيفاجؤون يوم القيامة بِعلوِّ مكانة المؤمنين الذين كانوا مستضعفين في الدنيا يستذلونهم ويستخدمونهم ويسخرون منهم ويتغامزون إذا مروا بهم ازدراءً واحتقارًا لشأنهم، فإذا ما جاؤوا يوم الحشر ذُهلوا حين رأوهم قد تميزوا عنهم، ولم يشركوهم سوء مصيرهم، بل هم في روضات الجنات يحبرون ويتنعمون. كما قال جل ثناؤه في سورة الأعراف: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ} وكما قال سبحانه في سورة "المؤمنون": {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (١٠٤) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (١٠٥) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (١٠٦) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (١٠٧) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ}. وكما قال جل وعزَّ في سورة المطففين: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (٣٢) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (٣٣) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦)}. نعم قد ثُوِّبوا ما كانوا يفعلون ورأوا العذاب وذاقوا الندامة وتقطعت قلوبهم وسالت الدماء بكاء من عيونهم.

فقد أخرج ابن ماجة بسند حسن عن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: [يرسلُ البكاء على أهل النار، فيبكون حتى تنقطع الدموع، ثم يبكون الدم، حتى يصير في وجوههم

<<  <  ج: ص:  >  >>