وهي متصلة بما قبلها {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي عطلوا الفكر وما أعملوا العقل بل تجاوزوا صحيح المحاكمات وانحطوا في التصرف فرأوا في أصنامهم وأوثانهم شفعاء، نسبوها للَّه أو نسبوا لها قوةً وتأثيرًا عند اللَّه ظلمًا وزورًا. فكذبهم اللَّه وعابهم، ودحضَ وجهَتَهُمْ وظنَّهم وفاسدَ ما اعتقدوه، فقال سبحانه:{قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}: أي هو الذي يأذنُ بالشفاعة لمن شاء وأحب، كما قال سبحانهُ في سورة الأنبياء:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ}[الأنبياء: ٢٤]، إلى أن قال جلت أسماؤه:{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}[الأنبياء: ٢٨]. فلا أحد يملكَ الشفاعةَ ابتداءً بل من أكرمهُ اللَّه بها، فله الملك والكبرياءُ وحده يومَ لا تكلم نفسٌ إلا بإذنه، كما أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال:[يقبض اللَّه الأرض يوم القيامةِ، ويطوي السماوات بيمينهِ، ثم يقول: أنا الملِكُ، أين ملوك الأرض؟ ](١).
قال قتادة:(أي نفرت قلوبهم واستكبرت). وقال مجاهد:(انقبضت. قال: وذلكَ يوم قرأ عليهم النجم عند باب الكعبة). وعن السدي:(قوله: {اشْمَأَزَّتْ} قال: نفرت {وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} أوثانهم).
وقوله:{إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}. قال القرطبي:(أي يظهر في وجوههم البشر والسرور). وقال القاسمي:(أي يفرحون بذلك. لفرط افتنانهم بها، ونسيانهم حق اللَّه تعالى. ولقد بولغ في الأمرين حيث بين الغاية فيهما. فإن الاستبشار أن يمتلئ قلبه سرورًا حتى تنبسطَ له بشرة وجهه. والاشمئزاز أن يمتلئ غمًا حتى ينقبض أديم وجهه).
قلت: وأصل الاشمئزاز النفور والازورار وإبداء الكراهية، وهذا شأن كثير من الناس الذين فَتَنوا أنفسهم بالشهوات ومسالك الحرام وتعلقت قلوبهم بالكبائر والفواحش فإذا ما ذكرتهم باللَّه نقموا واشمأزوا بحيث لا يريدون أن يسمعوا صوت الحق الذي يهديهم ويعكر عليهم فاسد أمزجتهم، وكذلكَ إذا ذُكِّروا بالموتِ أبدوا انزعاجهم وغيروا الحديث إلى ما يرفِّه أحلامهم، كما قال جل ثناؤه في سورة الروم
(١) حديث صحيح. أخرجه البخاري (٤٨١٢)، ومسلم (٢٧٨٧)، من حديث أبي هريرة.