إذِ المسلمونَ هُم الشُّهداءُ على النّاسِ الذينَ يشهدونَ الحقائقَ على ما هيَ عليهِ بما أعطاهُم اللهُ مِنَ الهُدَى والنُّورِ والعِلم، وفضَّلَهم بهِ على سائرِ الأُممِ الذينَ اهتَدَوا بنورِ الكُتبِ الإلهيّة، فكيفَ بالأُممِ الذينَ لم يكُنْ عندَهم هذا النُّورُ، وأرسطو تفطن بخطأِ أسلافِهِ وبيَّنَ بطلانَ قولِ أفلاطونَ وفيثاغورسَ، واتَّبعَهُ ابنُ سينا وأمثالُهُ، وذكَروا أنَّ الفلسفةَ كانَتْ نِيَّةً غيرَ ناضجةٍ، وإنَّما كانَ مبدَؤُها النَّظرَ في الطَّبيعيّات، فصاروا يظنُّونَ أنَّ ما يعقلُهُ الإنسانُ مِنَ الكُلِّيّاتِ المجرَّدةِ الموجودةِ في الخارج، لكِنَّ أرسطو وأتباعَهُ لم يَتخلَّصوا مِنْ جميعِ هذا الضَّلال، بَلْ أثبَتوا المادّةَ في الخارج، لكِنْ قالوا: إنَّهُ لا يمكنُ وجودُ الماهيّةِ بدونِ الأشخاص، ولا وجودُ المادّةِ بدونِ الصُّورةِ.
وقد بسطَنْا الكلامَ على هذا كُلِّهِ في غيرِ هذا الموضع، وإنَّما المقصودُ هنا التَّنبيهُ على مادّةِ كلامِ هذا المحتَجّ، وأنَّ هذهِ المقدِّمةَ التي ذكرَها مبنيّةٌ على هذا الأصل، وإنْ كانَ كذلكَ فهوَ لم يُقِمْ دليلًا على هذهِ الحُجّةِ. ونحنُ في هذا المقامِ قد نَكْتفي بالمنعِ؛ فإنَّ مَنْ جاءَ بالدَّعوى لم يقابلْ إلّا بالمنع، فيُقالُ لهُ: لا نُسلِّمُ أنَّ لِشيءٍ مِنَ الموجوداتِ في الخارجِ ماهيّةً غيرَ هذا الموجودِ المحسوسِ في الخارج، فضلًا عَنْ أنْ يكونَ قابلًا لوجودِهِ أو سببًا لوجودِهِ أو تكونَ صفتُها سببًا لِصفةٍ أُخرى، بَلْ نحنُ نعلمُ بالاضطرارِ أنَّهُ ليسَ في الموجودِ المعيَّنِ القائمِ بنفسِهِ جوهرانِ قائمانِ بأنفُسِهما؛ أحدُهما حيوانٌ والثّاني ناطقٌ، بلِ الجوهرُ الموصوفُ بأنَّهُ حيوانٌ هوَ الجوهرُ الموصوفُ بأنَّهُ ناطقٌ، ولذلكَ كُلُّ موجودٍ بحقيقتِهِ التي هيَ ماهيَّتُهُ وذاتُهُ وإنِّيَّتُهُ هيَ هوَ ليسَتْ شيئًا غيرَهُ، وليسَ هوَ شيئًا غيرَ هذا الموجودِ المشخَّصِ المحسوس، وليسَ معَهُ حقيقةٌ غير هذا الموجودِ المشخَّصِ المحسوسِ لا كلِّيّة ولا جزئيّة.