(المسألة الرابعة): قال في "الفتح" ما حاصله: معنى قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}: حتى يظهر بياض النهار من سواد الليل، وهذا البيان يحصل بطلوع الفجر الصادق، ففيه دلالة على أن ما بعد الفجر من النهار، وقال أبو عبيد: المراد بالخيط الأسود الليل، وبالخيط الأبيض الفجر الصادق، والخيط: اللون. وقيل: المراد بالأبيض أول ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق، كالخيط الممدود، وبالأسود ما يمتدّ معه من غبش الليل شبيهًا بالخيط، قاله الزمخشريّ، قال: وقوله: {مِنَ الْفَجْرِ} بيان للخيط الأبيض، واكتفى به عن بيان الخيط الأسود لأن بيان أحدهما بيان للآخر، قال: ويجوز أن تكون "من" للتبعيض لأنه بعض الفجر، وقد أخرجه قوله:{مِنَ الْفَجْرِ} من الاستعارة إلى التشبيه، كما أن قولهم: رأيت أسدًا مجاز، فإذا زدت فيه "من فلان" رجع تشبيهًا.
ثم قال: كيف جاز تأخير البيان، وهو يُشبه العبث (١) لأنه قبل نزول {مِنَ الْفَجْرِ} لا يفهم منه إلا الحقيقة، وهي غير مرادة، ثم أجاب بأنّ مَنْ لا يجوّزه -وهم أكثر الفقهاء والمتكلّمين- لم يصحّ عندهم حديث سهل، وأما من يجوّزه فيقول: ليس بعبث؛ لأن المخاطب يستفيد منه وجوب الخطاب، ويعزم على فعله إذا استوضح المراد به. انتهى. قال الحافظ -رحمه الله-: ونقله نفي التجويز عن الأكثر فيه نظر، كما سيأتي، وجوابه عنهم بعدم صحة الحديث مردود، ولم يقل به أحد من الفريقين؛ لأنه مما اتفق الشيخان على صحّته، وتلقّته الأمة بالقبول.
ومسألة تأخير البيان مشهورة في كتب الأصول، وفيها خلاف بين العلماء من المتكلّمين وغيرهم، وقد حَكَى ابن السمعانيّ في أصل المسألة عن الشافعيّة أربعة أوجه:[الجواز مطلقًا]: عن ابن شريج، والإصطخريّ، وابن أبي هريرة، وابن خيران.
(١) لا يخفى ما هذه العبارة من سوء الأدب، فكان الأولى حذفها، وإنما أبقيتها أداء للأمانة العلميّة. فليتنبّه.