للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

قال القرطبيّ: ويَحتاج موضع الخلاف إلى تنقيح، فنقول: أما الصَّدقة في السَّبيل، أو على المسكين، أو على ذي الرَّحم إذا وصلت للمتصدِّق عليه فلا يحل الرُّجوع فيها بغير عوض، قولًا واحدًا؛ لأنه قد أخرجها عن ماله على وجه القربة لله تعالي، واستحقّها المتصدَّق عليه، ومَلَكها بالصدقة، والحوز، فالرجوع فيها، أو في بعضها حرام.

وأما الرُّجوع فيها بالشراء الذي لا يُحَطُّ عنه فيه من ثمنها شيءٌ فمكروه؛ لأنه قد استردّ عينًا أخرجها لله تعالى.

والأَولى: حمل النهي الواقع في الحديث المذكور عن الابتياع على التحريم؛ لأن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- فَهِم عن عمر -رضي الله عنه- ما كان وقع له، من أنه يبيعه منه بحطيطة من الثمن، وهذا رجوع في بعض عين الصَّدقة، إلَّا أن الكراهية هي المشهورة في المذهب في هذه المسألة، وكأنَّهم رأوا: أن هذه عطية مبتدأة من المتصَدَّق عليه، أو الموهوب له؛ لأنها عن طيب نفس منه، فكان ذلك للمتصدِّق أو الواهب مِلكًا جديدًا بطريق آخر، وهذا كما قال -صلى الله عليه وسلم- لمن وهب أمةً لأمّه فماتت أمُّه، فسأل النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، فقال له النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "وجب أجرك، وردَّها عليك الميراث"، غير أنه لا يليق بمكارم الأخلاق أن يعود في شيء أُخرج عنه على وجه المعروف، ولا بأهل الدِّين أن يرجعوا في شيء خرجوا عنه لله تعالى بوجه، فكان مكروهًا من هذا الوجه، وهذا نحو مما قررناه في قصَّة تحرّج المهاجرين من المقام بمكة.

قلت (١): والظاهر من ألفاظ الحديث ومساقه التحريم، فاجمع ألفاظه، وتدَبّر معانيها؛ يَلُحْ لك ذلك -إن شاء الله تعالى. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله، وهو تحقيقٌ نفيس جدًّا.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي حملُ النهي على التحريم - كما قال القرطبيّ رحمه الله هو الحقّ؛ لحديث عمر -رضي الله عنه- المذكور في الباب، فإن النهي للتحريم على المذهب الراجح؛ كما أن الأمر للوجوب، قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: ٦٣]، وقال


(١) القائل هو: القرطبيّ رحمه الله.