رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وإذا نهيتكم عن شيء، فاجتنبوه"، متّفقٌ عليه، ولا دليل هنا من نصّ، ولا إجماع يصرف النهي عن التحريم إلى كراهة التنزيه.
والحاصل أن شراء الصدقة محرّم، يفسد به البيع، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): قال الطبريّ رحمه الله: يُخصّ من عموم هذا الحديث مَن وَهَب بشرط الثواب، ومن كان والدًا، والموهوب ولده، والهبة التي لم تُقبض، والتي ردّها الميراث إلى الواهب؛ لثبوت الأخبار باستثناء كلّ ذلك، وأما ما عدا ذلك، كالغنيّ يثيب الفقير، ونحو من يَصِل رحمه، فلا رجوع لهؤلاء، قال: ومما لا رجوع فيه مطلقًا الصدقة يراد بها ثواب الآخرة. انتهى (١).
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "مثل الذي يرجع في هبته كمثل الكلب يقيء ثم يعود في قيئه": إن كان المراد بالهبة الصدقة، كما قد جاء في الرواية الأخري، فقد تكلّمنا عليها، وإن كان المراد مطلق الهبة، فهي مخصوصة؛ إذ يخرج منها الهبة للثواب، وهبة أحد الأبوين، فأما هبة الثواب، فقد قال بها مالك، وإسحاق، والطبريّ، والشافعيّ -في أحد قوليه-: إذا عُلِم أنه قصد الثواب؛ إما بالتصريح به، وإما بالعادة والقرائن، كهبة الفقير للغنيّ، والرَّجل للأمير، وبها قال أبو حنيفة: إذا شرط الثواب، وكذلك قال الشافعيّ في القول الآخر، وقد رُوي عنهما، وعن أبي ثور: منعها مطلقًا، ورأوا أنَّها من البيع المجهول الثمن والأجل.
والأصل في جواز هبة الثواب: ما خرَّجه الدارقطنيّ من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-، عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال:"من وهب هبة فهو أحقّ بها ما لم يُثَبْ عليها منها"، قال: رواته كلهم ثقات. والصواب عن ابن عمر عن عمر قولَهُ، وما خرَّجه مالك عن عمر أنه قال: من وهب هبة لصلة الرَّحم، أو على وجه الصَّدقة أنه لا يرجع فيها، ومن وهب هبة يرى أنَّه إنما أراد بها الثواب، فهو على هبته يرجع فيها ما لم يُرْضَ منها، وما خرَّجه الترمذيّ من حديث أبي هريرة قال: أهدى رجل من بني فزارة إلى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ناقة، فعوّضه منها بعض العوض، فتسخَّطه، وفي رواية: أهدى له بَكْرة، فعوَّضه ستَّ بكرات، فقال
(١) نقله ابن بطال في "شرح البخاري" ٧/ ١٤٠، والحافظ في "الفتح" ٦/ ٤٧٧.