يكن للعوام مدخل فيه، ولا لهم إنكاره، بل ذلك للعلماء، ثم العلماء إنما ينكرون ما أُجمع عليه، أما المختلف فيه، فلا إنكار فيه؛ لأن على أحد المذهبين كل مجتهد مصيب، وهذا هو المختار عند كثيرين من المحققين (١)، أو أكثرهم، وعلى المذهب الآخر المصيب واحد، والمخطئ غير متعين لنا، والإثم مرفوع عنه، لكن إن ندبه على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف، فهو حسن محبوب، مندوب إلى فعله برفق، فإن العلماء متفقون على الحث على الخروج من الخلاف، إذا لم يلزم منه إخلال بسنّة، أو وقوع في خلاف آخر.
وذكر أقضى القضاة، أبو الحسن الماورديّ البصري الشافعيّ في كتابه "الأحكام السلطانية" خلافًا بين العلماء في أن من قلّده السلطان الْحِسْبة، هل له أن يَحمِل الناس على مذهبه، فيما اختَلَف فيه الفقهاء، إذا كان المحتسِب من أهل الاجتهاد، أم لا يغيّر ما كان على مذهب غيره؟ والأصح أنه لا يغير لما ذكرناه، ولم يزل الخلاف في الفروع، بين الصحابة والتابعين، فمن بعدهم رضي الله عنهم أجمعين، ولا ينكر محتسِب، ولا غيره على غيره، وكذلك قالوا: ليس للمفتي، ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه، إذا لم يخالف نصًّا، أو إجماعًا، أو قياسًا جليًّا والله أعلم.
(واعلم): أن هذا الباب أعني باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، قد ضُيّع أكثره من أزمان متطاولة، ولم يبق منه في هذه الأزمان، إلا رسوم قليلة جدًّا، وهو باب عظيم، به قوام الأمر ومِلاكه، وإذا كثر الخبث عَمّ العقاب الصالح والطالح، وإذا لم يأخذوا على يد الظالم، أوشك أن يعمّهم الله تعالى بعقابه:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النور: ٦٣].
فينبغي لطالب الآخرة، والساعي في تحصيل رضا الله عز وجل، أن يعتني بهذا الباب، فإن نفعه عظيم، لا سيما وقد ذهب معظمه، ويُخلِص نيته، ولا
(١) بل المحققون على أن هذه المسألة فيها تفصيل، وقد حققته في "التحفة المرضيّة"، وشرحها "المنحة الرضيّة" في الأصول، فراجعه، تستفد، وبالله تعالى التوفيق.