بِالْبَيْعِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الصَّدَقَةُ. وَلَنَا قَوْلُهُ ﵊ «لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ إلَّا مَقْبُوضَةً» وَالْمُرَادُ نَفْيُ الْمِلْكِ،
لَا يَمْلِكُهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ إلَّا بِالْقَبُولِ وَالْقَبْضِ. وَثَمَرَةُ ذَلِكَ تَظْهَرُ فِيمَا ذَكَرْنَا فِي مَسَائِلَ مُتَفَرِّقَةٍ مِنْ كِتَابِ الْأَيْمَانِ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ حَلَفَ أَنْ يَهَبَ عَبْدَهُ لِفُلَانٍ فَوَهَبَ وَلَمْ يُقْبَلْ فَقَدْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ. اهـ كَلَامُهُ.
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ كَمَا هُوَ دَأْبُهُ فِي أَكْثَرِ الْمَحَالِّ، وَنَسَجَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ مَعْنَى الْمَقَامِ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ أَيْضًا وَعَزَاهُ إلَى الْحَصْرِ وَالْمُخْتَلَفِ. وَبَنَى صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَيْضًا كَلَامَهُ هَاهُنَا عَلَى اخْتِيَارِ هَذَا الْمَعْنَى حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ: وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ مِنْ جِهَةِ الْعَاقِدَيْنِ، أَمَّا مِنْ جِهَةِ الْوَاهِبِ فَلِأَنَّ الْإِيجَابَ كَافٍ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ أَنْ يَهَبَ عَبْدَهُ لِفُلَانٍ فَوَهَبَ وَلَمْ يُقْبَلْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَلِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَثْبُتُ بِالْقَبُولِ بِدُونِ الْقَبْضِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ اهـ.
وَالشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ أَيْضًا اقْتَفَى أَثَرَ هَؤُلَاءِ، وَبِالْجُمْلَةِ أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ هَاهُنَا عَلَى أَنَّ الْهِبَةَ تَتِمُّ بِالْإِيجَابِ وَحْدَهُ. أَقُولُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرُوهُ وَإِنْ كَانَ مُطَابِقًا جِدًّا لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي مَسَائِلَ مُتَفَرِّقَةٍ مِنْ كِتَابِ الْأَيْمَانِ فَإِنَّهُ قَالَ هُنَاكَ: وَمَنْ حَلَفَ أَنْ يَهَبَ عَبْدَهُ لِفُلَانٍ فَوَهَبَ وَلَمْ يُقْبَلْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ خِلَافًا لِزُفَرَ فَإِنَّهُ يَعْتَبِرُهُ بِالْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ مِثْلُهُ. وَلَنَا أَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَيَتِمُّ بِالْمُتَبَرِّعِ وَلِهَذَا يُقَالُ وَهَبَ وَلَمْ يُقْبَلْ اهـ. إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِمَا ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَمَّا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فَلِأَنَّهُ عَقْدٌ، وَالْعَقْدُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بِمَنْزِلَةِ الصَّرِيحِ فِي أَنَّ عَقْدَ الْهِبَةِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ، وَيَشْهَدُ بِهَذَا أَيْضًا قَوْلُهُ: وَالْقَبْضُ لَا بُدَّ مِنْهُ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ، إذْ لَوْ كَانَ مُرَادُهُ أَنَّ الْهِبَةَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَيَتِمُّ بِالْمُتَبَرِّعِ وَلَكِنْ لَا يَمْلِكُهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ إلَّا بِالْقَبُولِ وَالْقَبْضِ لَقَالَ وَالْقَبُولُ وَالْقَبْضُ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ، وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا لَا سُتْرَةَ بِهِ عِنْدَ مَنْ لَهُ ذَوْقٌ صَحِيحٌ.
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ قَدْ كَانَا صَرَّحَا قُبَيْلَ هَذَا الْكَلَامِ بِأَنَّ رُكْنَ الْهِبَةِ هُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ ذَاكَ التَّصْرِيحَ مِنْهُمَا يُنَافِي الْقَوْلَ مِنْهُمَا هَاهُنَا بِأَنَّ الْهِبَةَ تَتِمُّ بِالْإِيجَابِ وَحْدَهُ، إذَا لَا شَكَّ أَنَّ الشَّيْءَ لَا يَتِمُّ بِبَعْضِ أَرْكَانِهِ بِدُونِ حُصُولِ الْآخَرِ ضَرُورَةَ انْتِفَاءِ الْكُلِّ بِانْتِفَاءِ جُزْءٍ وَاحِدٍ مِنْهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ الْكَافِي وَصَاحِبَ الْكِفَايَةِ سَلَكَا هَاهُنَا مَسْلَكًا آخَرَ فَقَالَا وَرُكْنُهَا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ؛ لِأَنَّهَا عَقْدٌ، وَقِيَامُ الْعَقْدِ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْإِنْسَانِ لَا يَنْتَقِلُ إلَى الْغَيْرِ بِدُونِ تَمْلِيكِهِ، وَإِلْزَامُ الْمِلْكِ عَلَى الْغَيْرِ لَا يَكُونُ بِدُونِ قَبُولِهِ، وَإِنَّمَا يَحْنَثُ لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَهَبَ فَوَهَبَ وَلَمْ يُقْبَلْ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَمْنَعُ نَفْسَهُ عَمَّا هُوَ مَقْدُورٌ لَهُ وَهُوَ الْإِيجَابُ لَا الْقَبُولُ؛ لِأَنَّهُ فِعْلُ الْغَيْرِ. اهـ كَلَامُهُمَا.
أَقُولُ: هَذَا التَّقْرِيرُ وَإِنْ كَانَ مُنَاسِبًا لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُلَائِمٍ لِمَا ذَكَرَهُ فِي مَسَائِلَ مُتَفَرِّقَةٍ مِنْ كِتَابِ الْأَيْمَانِ كَمَا نَقَلْنَاهُ آنِفًا، وَأَيْضًا يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ لِلْحِنْثِ فِيمَا لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَهَبَ فَوَهَبَ وَلَمْ يُقْبَلْ يَقْتَضِي أَنْ يَحْنَثَ أَيْضًا فِيمَا لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَبِيعَ فَبَاعَ وَلَمْ يُقْبَلْ؛ لِأَنَّ الْمَقْدُورَ لَهُ فِي كُلِّ عَقْدٍ هُوَ الْإِيجَابُ لَا الْقَبُولُ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ فِي صُورَةِ الْبَيْعِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ كَلِمَاتِ الْقَوْمِ فِي هَذَا الْمَقَامِ لَا تَخْلُو عَنْ الِاضْطِرَابِ، وَعَنْ هَذَا قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ: وَأَمَّا رُكْنُهَا فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ فِي مَبْسُوطِهِ: هُوَ مُجَرَّدُ إيجَابِ الْوَاهِبِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَهَبْت وَلَمْ يَجْعَلْ قَبُولَ الْمَوْهُوبِ لَهُ رُكْنًا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَنْعَقِدُ بِمُجَرَّدِ إيجَابِ الْوَاهِبِ، وَلِهَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إذَا حَلَفَ لَا يَهَبُ فَوَهَبَ وَلَمْ يُقْبَلْ يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ عِنْدَنَا. وَقَالَ صَاحِبُ التُّحْفَةِ: رُكْنُهَا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْهِبَةَ عَقْدٌ وَالْعَقْدُ هُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ إلَى هُنَا كَلَامُهُ. وَقَالَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ: أَمَّا رُكْنُ الْهِبَةِ فَهُوَ الْإِيجَابُ مِنْ الْوَاهِبِ، فَأَمَّا الْقَبُولُ مِنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَلَيْسَ بِرُكْنٍ اسْتِحْسَانًا. وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ رُكْنًا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ. وَفِي قَوْلٍ قَالَ: الْقَبْضُ أَيْضًا رُكْنٌ. وَفَائِدَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَهَبُ هَذَا الشَّيْءَ لِفُلَانٍ فَوَهَبَهُ لَهُ فَلَمْ يَقْبَلْ أَنَّهُ يَحْنَثُ اسْتِحْسَانًا، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يَقْبَلْ، وَفِي قَوْلٍ مَا لَمْ يَقْبَلْ وَيَقْبِضْ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا حَلَفَ لَا يَبِيعُ هَذَا الشَّيْءَ لِفُلَانٍ فَبَاعَهُ فَلَمْ يُقْبَلْ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ، إلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute