فقد ذكر أبو الطيب تسويد الشمس «بيض أوجهنا» المعنى الذي فيه العقدة الكافورية التي أشرنا إليهم آنفًا. ثم ذكر العمائم في قوله «تبدو لنا كلما ألقوا عمائهم» فدل على أنهم سافروا يقون أنفسهم بذلك من أوار الشمس كما قد صنع أصحاب علقمة.
ثم بما كان في نفسه من هوى الصدق وعادته نجد أبا الطيب ينبهنا أنه إما اقتدى بعلقمة تلميحًا كالتصريح وذلك قوله بعد هذا البيت «قد بلغوا بقناهم إلخ»:
في الجاهلية إلا أن أنفسهم ... من طببهن به في الأشهر الحرم
قوله «في الجاهلية» تنبيه وإشارة إلى وصف شعراء الجاهلية الموامي والمياه الأواجن وصحبة القفار. وما ذكره هو خاصة في هذه القصيدة يومئ بإصبع إلى ميمية علقمة
ناشوا الرماح وكانت غير ناطقة ... فعلموها صياح الطير في البهم
ناشوا هذه قرآنية من قوله تعالى {وأنى لهم التناوش} بهمز الواو وترك الهمز. وقال الراجز: -
باتت تنوش الحوض نوشًا من علا ... نوشا به تقطع أجواز الفلا
وقوله فعلموها صياح الطير ينبئ عن تجربة وهو في قوله:
وملمومة سيفية ربعية ... يصيح الحصى فيها صياح اللقالق
واللقالق ضرب من الطير. وأصل المعنى من عنترة: «تمكو فريصته كشدق الأعلم والمكاء صفير وصلة الصفير بالطير لا تخفى».
تخذي الركاب بنا بيضًا مشافرها ... خضرًا فراسنها في الرغل والينم
مكعومة بسياط القوم نضربها ... عن منبت العشب نبغي منبت الكرم
هذان البيتان نجد فيهما صدى من خطبان علقمة وتنومه الذي ينقف الظليم ما استطف منه وأبي سوط علقمة الذي ذكره في قوله: «تلاحظ السوط شزرًا وهي ضامرة، وهذا قبل بيت الظليم ونعته، إلا أن يكون له صدى منبئ عن أصل مكان الأخذ الذي أخذه أبو الطيب- وهو قوله «مكعومة بسياط القوم» وسائر البيت من قول حبيب:
أمطلع الشمس تبغي أن تؤم بنا ... فقلت كلا ولكن مطلع الجود
ثم يأتي بعد ذلك القسم الأوسط من القصيدة. وقد صنع فيه صنعًا قريبًا مما صنع في «واحر قلباه ممن قلبه شبم» وذلك أنه جاء بالتخصير المحض ثم وشحه قبل أن يصير إلى القسم الثالث من القصيدة الذي هو نهايتها وأوله «توهم القوم».
أول التخضير «وأين منتبه». وأنزل رثاء فاتك منزلة العظة والاعتبار والحكمة:
وأين منبته من بعد منبته ... أبي شجاع قريع العرب والعجم
لا فاتك آخر في مصر نقصده ... ولا له خلف في الناس كلهم
من لا تشابهه الأحياء في شيم ... أمسى تشابهه الأموات في الرمم
عدمته وكأني سرت أطلبه ... فما تزيدني الدنيا على العدم
هاهنا مرارة بالغة كأن قد عاد بها عودًا قاتمًا إلى قوله من قبل:
ونترك الماء لا ينفك من سفر ... ما سار في الغيم منه سار في الأدم