فأسعدت نفسًا بالهوى قبل أن أرى ... عوادي منأى بيننا وشغول
ندمت على ما فاتني يوم بنتم ... فيا حسرتا أن لا يرين عويلي
كفى حزنًا للعين أن رد طرفها ... لعزة عير آذنت برحيل
ولا يخفى على القارئ أن صوت الحرمان في كلام كثير أقوى من صوت المنالة، وأسفه عليه أشد من صبره. وجلي أن كثيرًا لم يكن في أصل نفسه عُذري المزاج، ولكن شهوانيه وإنما حمله على العذرية دمامته وقماءته وزهوه وكبرياؤه، فاصطلى بنار من الغليل يلمحها المرء في كل بيت من أبياته هذه. وما كان أصدقه عن نفسه إذ يقول:
تمتع بها ما ساعفتك ولا يكن ... عليك شجًا في الحلق حين تبين
وإن هي أعطتك الليان فإنها ... لآخر من خلانها ستلين
ألا إنما ليلى عصا خيزرانة ... إذا غمزوها بالأكف تلين
وقد جسر بشار فنقد البيت الثالث من هذه الأبيات، وزعم أن كثيرًا لو جعل محبوبته «عصا من زُبد» لكان قد أساء. ثم قال: هلا قال كما قلت:
إذا قامت لحاجتها تثنت ... كأن عظامها من خيزران
وهذا تدليس من بشار، إذ لم يكن قصد كثير أن يصف عظام محبوبته كما هو واضح من السياق.
هذا، ولم نعد أن ذكرنا لك من أصناف الشعر الصالحة للطويل ما يجري مجرى الحماسة والنسب والمدح والعتاب والاعتذار. وإن كنا قد أجملنا أول الأمر أن هذا البحر صالح لكل ما فيه جد وعمق. ومما هو عميق جدًا، وجاد حقًا، ويستقيم على الطويل كل الاستقامة، شعر الفكاهة، الخالص لها. وقد يتراءى للمرء أن الفكاهة لا جد ولا عُمق فيها. ولكن هذا ليس بصحيح. فالفكاهة أنواع، منها ما يصدر عن