سرعة الخاطر، ومنها ما يصدر عن التورية والطباق والطباق اللفظي والتلاعب بالأفكار، ومنها ما يصدر عن التهكم والسخرية. وأعمقها جميعًا الفكاهة الخالصة، ثم السخرية الخفية المدخل التي يكون موضوعها أمرًا عامًا، لا شخصًا بعينه فإن ذلك يحصر دائرتها ويدخلها في دائرة الحقد، ويبعدها عن العمق، ويقلل من قيمتها، ويضعف من قوتها. ومن الشعراء الذين عُرفوا بالفكاهة والدعابة والسخرية وكان الطويل مسلكًا مهيعًا لهم، أبو مكية الفرزدق بن غالب. وقد كان هذا الرجل مع دعابته ذا جد وشكيمة وكان شديد التعصب لقومه، شديد النقمة على الولاة، نقادة لأحوال عصره السياسية هجاء مُقذعًا في الهجاء. ولعل الإقذاع في الهجاء كان أضعف ملكاته على إكثاره منه كما أن الفكاهة مع الكبرياء القبلية والشعور بالعزة كانت أعظم دوافعه، وأجود ما ينظم فيه. ومن دقة حسه، وصدقه، وسعة أفقه، أنه لم يكن يقصر موضوع فكاهته على نقد غيره من الناس أو تصويرهم، وإنما كان يتناول نفسه فلا يألو: خذ مثلاً قوله يصف إحدى لياليه الفاجرة بالمدينة: (٢٥٩ - ٢٦١).
فما زلت حتى أصعدتني حبالها ... إليها وليلي قد تخامص آخره
ولا أحسب شعر بن أبي ربيعة على إكثاره في الغزل ولقاء الفتيات قد جاء فيه ذكر الحبال
فلما اجنمعنا في العلالي بيننا ... ذكي أتى من أهل دارين تاجره
نقعت غليل النفس إلا لبانة ... أبت من فؤادي، لم ترمها ضمائره
ولكن الفرزدق لا يكتفي بهذا، فهو لم يعف لتقوى أو حياء أو مروة كما قد يتبادر إلى ذهنك لو سمعت هذا البيت وحده مفردًا، أو كان الشاعر أنهى كلامه عنده. وإنما عف لأسباب أخر ليس فيها من دوافع العفة شيء، وهو لا يريد أن يخفيها عنك، وإن هبط ذلك بقدره في عينك، وهذا منه غاية في الصدق: