للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

في الحال كما قلنا، أي أن جميع من نزه نفسه وأعدها لقبول الكمال يهديه هذا الكتاب، أو يزيده هدى كقوله تعالى: والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم [محمد: ١٧].

الثاني: أنه هدى في الماضي أي حصل به هدى أي بما نزل من الكتاب، فيكون المراد من المتقين من كانت التقوى شعارهم أي أن الهدى ظهر أثره فيهم فاتقوا وعليه فيكون مدحا للكتاب بمشاهدة هديه وثناء على المؤمنين الذين اهتدوا به وإطلاق المتقين على المتصفين بالتقوى فيما مضى، وإن كان غير الغالب في الوصف باسم الفاعل إطلاق يعتمد على قرينة سياق الثناء على الكتاب.

الثالث: أنه هدى في المستقبل للذين سيتقون في المستقبل وتعين عليه هنا قرينة الوصف بالمصدر في هدى لأن المصدر لا يدل على زمان معين.

حصل من وصف الكتاب بالمصدر من وفرة المعاني ما لا يحصل، لو وصف باسم الفاعل فقيل هاد للمتقين، فهذا ثناء على القرآن وتنويه به وتخلص للثناء على المؤمنين الذين انتفعوا بهديه، فالقرآن لم يزل ولن يزال هدى للمتقين، فإن جميع أنواع هدايته نفعت المتقين في سائر مراتب التقوى، وفي سائر أزمانه وأزمانهم على حسب حرصهم ومبالغ علمهم واختلاف مطالبهم، فمن منتفع بهديه في الدين، ومن منتفع في السياسة وتدبير أمور الأمة، ومن منتفع به في الأخلاق والفضائل، ومن منتفع به في التشريع والتفقه في الدين، وكل أولئك من المتقين وانتفاعهم به على حسب مبالغ تقواهم. وقد جعل أئمة الأصول الاجتهاد في الفقه من التقوى، فاستدلوا على وجوب الاجتهاد بقوله تعالى: فاتقوا الله ما استطعتم [التغابن: ١٦] فإن قصر بأحد سعيه عن كمال الانتفاع به، فإنما ذلك لنقص فيه لا في الهداية، ولا يزال أهل العلم والصلاح يتسابقون في التحصيل على أوفر ما يستطيعون من الاهتداء بالقرآن" (١).

و(الهُدَى) في اللغة: "الرشاد والدلالة (٢).

و(التقوى) لغة: قلة الكلام (٣)، وهو مأخوذ من: اتقاء المكروه بما تجعله حاجزا بينك وبينه (٤)، كما قال النابغة (٥):

سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتقتنا باليد

وقال آخر (٦):

فألقت قناعا دونه الشمس واتقت ... بأحسن موصولين كف ومعصم

ومنه قول خفاف بن ندبة (٧):


(١) التحرير والتنوير: ١/ ٢٢٦ - ٢٢٧.
(٢) مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي، القاموس المحيط، طبعة دار الجبل، الجزء الرابع، مادة (الهدى) فصل الهاء باب الياء.
(٣) معجم مقاييس اللغة، ابن فارس: مادة (وقى)، والأصل في التقوى: وَقْوَى على وزن فعلى فقلبت الواو تاء من وقيته أقيه أي منعته، ورجل تقي أي خائف، أصله وقي، وكذلك تقاة كانت في الأصل وقاة، كما قالوا: تجاه وتراث، والأصل وجاه ووراث. (تفسير القرطبي: ١/ ١٦٢.
(٤) ينظر: تفسير القرطبي: ١/ ١٦١.
(٥) ديوان النابغة الذبياني: ٣٨. النابغة الذبيانى: هو زياد بن معاوية، ويكى أبا أمامة، وهو من الطبقة الأولى المقدمين. وإنما لقب النابغة لنبوغه فى الشعر بعد أن كبر. وكان يضرب له قبة من أدم بسوق عكاظ فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها. وكان مقدما عند النعمان، ومن ندمائه. وانظر فى ترجمته إلى: طبقات الشعراء لابن سلام ٤٥ - ٥٠، والشعر والشعراء ١٠٨ - ١٢٨، والأغانى ٩ - ١٥٦، وديوانه.
والنصيف: الخمار. وقال أبو سعيد: النصيف ثوب تتجلل به المرأة فوق ثيابها كلها. (لسان "نصف"، والعنم: شجر لين الأغصان لطيفها، الواحدة عنمة. (ابن فارس: معجم مقاييس اللغة: "عن".
والبيت ضمن قصيدة يصف زوجة النعمان فيها، مطلعها:
أمن آل مية رائح أو مغتد * عجلان ذا زاد وغير مزود
(٦) البيت لأبي حية النميري، واسمه الهيثم بن الربيع، أنظر البيت في: شرح أدب الكاتب: ١/ ٩٤، وزهر الآداب وثمر الألباب: ١/ ٢٦٣، وشرح ديوان الحماسة: ١/ ٤١٩، وأضواء البيان: ٣/ ١٧٨.
(٧) ورد البيت في (إصلاح المنطق) ص ٢٣، "تهذيب اللغة" (تقى) ١/ ٤٤٤، "الصحاح" (وقى) ٦/ ٢٥٢٧، "معجم مقاييس اللغة" (أثر) ١/ ٥٦، "الخصائص" ٢/ ٢٨٦، "اللسان" (أثر) ١/ ٢٦، (وقى) ٨/ ٤٩٠٢.
والصيقلون: جمع صيقل وهو شحاذ السيوف، وجلاؤها، يقول: جلوا تلك السيوف حتى إذا انظر الناظر إليها اتصل شعاعها بعينه فلم يتمكن من النظر إليها، فكلها يستقبلك بفرنده، و (يتقى) مخفف (يتقى) وهذا مكان الشاهد من البيت.

<<  <  ج: ص:  >  >>