ولما مات قال بعض العُلَمَاء: معشر أهل الهوى، كلوا الدُّنْيَا بالدين، فقد مات سفيان، يعني؛ ما بقي بعده أحد يستحيا منه.
وأما الإمام أحمد فكان أشد منهما تقشفًا في عيشه وأكثر صبرًا على خشونة العيش للقلة، وكانت معيشته من حوانيت له ورثها من أبيه، ويأخذ أجرها في الشهر دون عشرين درهمًا، ومات لم يخلف إلا قطعًا في خرقة له، كان وزنها دون نصف درهم، وترك عليه دينًا قضي عنه من أجرة حوانيته مع كثرة ما كان يرد عليه من الخلفاء من الجوائز والصلات.
وكان يحيى بن أبي كثير من العُلَمَاء الربانيين المتوسعين في العِلْم، وكان يقال: إنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ مِثْلُهُ، وَكَانَ حسن الثياب، حسن الهيئة، فلما مات خلف ثلاثين درهمًا كفنوه بها رحمه الله.
وكان محمد بن أسلم الطوسي من العُلَمَاء الربانيين الزهاد، فمات ولم يخلف سوى كساءه ولبده (١)، فوضعوهما على نعشه وإناء للوضوء تصدقوا به. فكان النساء على السطوح يقلن في جنازته: هَذَا العَالِمُ الَّذِي خَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا، وَهَذَا مِيرَاثُهُ الَّذِي عَلَى جَنَازَتِهِ، لَيْسَ مِثْلَ عُلَمَائِنَا هَؤُلاَءِ عَبِيدُ بُطُونِهِمْ، يَجْلِسُ أَحَدُهُمْ لِلْعِلْمِ سَنَتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا فَيَشْتَرِي الضّيَاعَ وَيَسْتَفِيدُ المَالَ.