للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إِلَى جنب قبر غيره. ففعل مثل ذلك فذكرتُ ذلك لمحمد بن المنكدر، وقلتُ: إِنَّمَا ظننتُ أنه قبر بعض أهله. فَقَالَ محمد: كلهم أهله وإخوانه، إِنَّمَا هو رجل يحرك قلبه بذكر الأموات، كلّما عرضت له قسوةٌ. قال: ثم جعل محمد بن المنكدر بعد يمرّ بي فيأتي البقيع، فسلَّمت عليه ذات يوم، فَقَالَ: ما نفعتك موعظة صفوان. قال: فظنت أنه انتفع بما ألقيتُ إِلَيْهِ منها.

وذكر أيضاً أنَّ عجوزًا مُتَعبِّدة من عبد القيس كانت تُكثر إتيان القبور، فعُوتبت في ذلك. فقالت: إِنَّ القلب القاسي إذا جفا لم يليِّنه إلاَّ رسوم البلى، وإنِّي لآتي القبور وكأني أنظر إليهم وقد خرجوا من بين أطباقها، وكأني أنظر إِلَى تلك الوجوه المتعفِّرة، وإلى تلك الأجسام المتغيِّرة، وإلى تلك الأكفان الدنسة. فيا له منظر لم أَسرّ به (١) قلوبهم، ما أنكل (٢) مرارة الأنفس وأشد تلفة الأبدان.

وقال زياد النميري: ما اشتقت إِلَى البكاء إلاَّ مررت عليه. قال له رجل: وكيف ذلك؟ قال: إذا أردتُ ذلك خرجت إِلَى المقابر فجلست إِلَى بعض تلك القبور، ثم فكَّرتُ فيما صاروا إِلَيْهِ من البلى، وذكرت ما نحن فيه من المُهلة. قال: فعند ذلك تختفي أطوَاري!

وقلتُ والله الموفَّق:

أفي دار الخراب تظل تبني ... وتعمر ما لعمران خُلقتا

وما تركت لك الأيامُ عذرًا ... لقد وعظتك لكن ما اتعظتا

تُنادي للرحيل بكل حين ... وتُعلن إنَّمَا المقصودُ أنتا

وتُسمعك النداءَ وأنت لاهٍ ... عن الداعي كأنَّك ما سمعتا

وتعلم أنَّه سفرٌ بعيد ... وعن إعداد زادٍ قد غفلتا


(١) بياض بقدر كلمة.
(٢) في الأصل: "نكل".

<<  <   >  >>