للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بيان السنة للقرآن

(٢)

الشيخ مسفر الدميني

الحمد الله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:

ففي حلقة العدد (١٨) وعند بياننا لقوله تعالى: [ولَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ

عَلَى حَيَاةٍ ومِنَ الَذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ومَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ

العَذَابِ أْن يُعَمَّرَ واللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ] [البقرة: ١٩٦] عرضنا لما تعيشه الأمة

الإسلامية اليوم من ذل وهوان وتحكم لليهود في أرضها ومصالحها وعلاقاتها.

وأن الأمل في زوال هذا الذل وهذه المهانة هو أمل فيما وعد الله عباده

الصادقين المتقين من تمكين لهم في الأرض، أما كيف يكون هذا التمكين؟ ومتى

يتحقق؟ فهذا ما سنحاول الإجابة عليه في هذه الحلقة -إن شاء الله تعالى-.

بين -سبحانه وتعالى- في آية سورة النور صفات المستحقين للتمكين فقال:

[وعَدَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ

الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ولَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَذِي ارْتَضَى لَهُمْ ولَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً

يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ومَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ] [٥٥] .

فالإيمان بالله والعمل الصالح وعبادة الله وحده دون إشراك به هي الصفات

التي يستحق من اتصف بها الاستخلاف في الأرض والتمكين وتبديل الأمن بالخوف، وما لم تكن عبادة الله خالصة من كل ما يشوبها من أنواع الشرك فلن يحصل

الأمن ولا التمكين، ولا تكون العبادة خالصة إلا بالعقيدة الصافية، فالعقيدة هي

الأصل وعنها تقبل الأعمال أو ترد، ولذا قدم -سبحانه- ذكر الإيمان على العمل

فقال: [الذين امنوا وعملوا ... ] فالعمل من غير إيمان بالله لا قيمة له، وكذا

الإيمان لا يكون إلا بالعمل الخالص الموافق للشرع.

والناظر في أحوال الأمة يجد الاختلاف والفرقة والتشتت بين بلدانها وشعوبها، بل بين أناسي البلد الواحد والشعب الواحد، وأسباب هذا الاختلاف كثيرة نذكر

منها:

ظهور القوميات الجاهلية المبنية على التعصب للقوم أو الجنس أو البلد، وهذه

العصبيات أذكاها الاستعمار الأوربي لبلاد المسلمين.

ومنها ظهور التيارات الفكرية المرتبطة بالغرب النصراني أو بالشرق

الشيوعي، وكان أثر هذه التيارات والأحزاب في عقيدة الأمة وفكرها قوياً بحيث قل

أن تجد مثقفاً لا يميل أو ينتسب إلى حزب من تلك الأحزاب أو جبهة من تلك

الجبهات المتعددة الأهواء والاتجاهات والتي يجمعها - غالباً - التنكر للإسلام عقيدة

وشريعة، أو إضعاف أثره في الأمة وعدم الثقة في إمكان قيام الدولة على أسس منه، إضافة إلى ما زرعه المستعمرون من حروب وعداوات بين شعوب العالم

الإسلامي، فقلما تجد دولة لا تضمر لجارتها عداوة أو تخشى منها حرباً.

وهذه الاختلافات وغيرها تحتاج إلى دراسة وبيان لكيفية الخلاص من آثارها

مما لا يتسع المقام لذكره، لكننا هنا سنعرض إلى سبب آخر غير ما تقدم أحسبه

جديراً بالتنبيه لخطورة أثره، ذلكم هو الاختلاف الناشئ عن العقيدة في صفوف

الدعاة إلى الله.

فإذا لم تجمعهم العقيدة الراسخة المستمدة من الكتاب والسنة على منهج سلف

الأمة فما الذي يجمعهم إذاً؛ هل تجمعهم المصالح المشتركة؛ أو المصير المشترك؛

إن العقيدة هي الأصل وهي عنصر الاجتماع والوفاق، كما أنها سبب الخلاف

والعداء والفرقة، والداعي إلى الله عليه أن يتبين خطواته، وأن يعرف موقعه بين

ثلاث وسبعين فرقة حتى لا يكون من دعاة الضلالة الذين يدعون إلى النار وهم

يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.

إن الصدق في البحث عن الحق هو أول أسس الوفاق والاجتماع، فإذا صدق

المختلفون من الدعاة في طلب الحق وُفقوا إليه أو أجروا عليه، والكتاب والسنة

النبوية هما الأصل، وإليهما المصير عند الاختلاف، كما أن فهم الصحابة والتابعين

من سلفنا الصالح لنصوصهما أصل أمرنا بالأخذ به واتباعهم فيه بنص الكتاب

والسنة.

وإذا كان الأمر كذلك فلننظر فيهما ونقف عند حدودهما فسنجد دون شك فيهما

ما يحسم الخلاف ويجمع الشتات ويؤلف بين القلوب المتنافرة، والعقائد المتباينة

فتصبح الأمة يداً واحدة، والدعاة صفاً واحداً، وبين يدي ذلك علينا أن نعلم أن

الاختلاف الواقع بين الأمة أمر نحن منه على بينة، فقد أخبرنا به رسول الله -

صلى الله عليه وسلم -، كما أن هذا الاختلاف قديم فقد وقع في عصر أصحاب

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يمنعنا علمنا بوقوع هذا الاختلاف وقدمه

في الأمة من العمل على جمع الشمل ولم الشتات وتوحيد الكلمة، ذلك أن الذي أخبر

بوقوع الاختلاف والفرقة قد أخبرنا بطريق النجاة، وأعلمنا المخرج من تلك الفتن،

وجعل اتباع ما كان عليه هو - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه هو الحق

والصواب الذي لا محيد عنه، وألزمنا أن ندعو من ضل الطريق أو جهل المخرج

إلى سواء السبيل، وهذه مهمة سلفنا الصالح فيما مضى، وهي مهمة الدعاة الآخذين

سبيلهم اليوم، وهل يظن أحد برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخبر أمته

باختلافها إلى فرق وأحزاب ولا يخبرها بالمخرج من الفرقة والاختلاف، ولا يبين

لها طريق الحق والصواب لتسلكه وتتخذه سبيلاً حتى تسلم من الوقوع في النار التي

أخبر أن من ضل طريق الحق كان مستحقاً لها؟ لا يظن به ذلك إلا منافق أو كافر،

ويكفي في رد هذا الظن السيئ قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ليأتين على أمتي

ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل، حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية

لكان في أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة،

وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة. قالوا: ومن هي

يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي) [١] ، وللحديث طرق أخرى.

وإذن فالطائفة التي على الحق هي التي على مثل ما عليه رسول الله - صلى

الله عليه وسلم - وأصحابه، ويبين هذا الحديث الآخر: (لا تزال طائفة من أمتي

على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله) [٢] فهذه الطائفة هي الطائفة

الناجية وهي بدون شك تلك التي سلكت سبيل النبي - صلى الله عليه وسلم -

وسبيل أصحابه، وهم أهل العلم كما قال البخاري أو أهل الحديث كما قال ابن

المديني والإمام أحمد -رحمهم الله جميعاً-.

وسبيل الصحابة الاتباع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا الابتداع ولا

التأويل أو التحريف أو التعطيل، كما أن سبيلهم الوقوف عند النصوص الشرعية،

وجعلها المصدر للتشريع، والحكم عند الاختلاف، فلا يردون نصاً صحيحاً، ولا

يتأولونه أو يخرجونه عن ظاهره، ولا يحكمون عقولهم في النصوص أو يقدمون

حكمها على حكم الله وحكم رسوله - صلى الله عليه وسلم -، كما لا يتهمون السلف

بأن طريقتهم في فهم النصوص أسلم وأنهم أعلم منهم وأحكم، بل يرون طريقة

السلف أسلم وأعلم وأحكم، لأنها طريقة الأصحاب الذين أمرنا باتباعهم، فهم قاموا

بالحق، وهم الطائفة المنصورة المؤيدة الذين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر

الله، ومن ظن أنه أعلم منهم أو أحكم فقد ضل وغوى وخسر.

من كل هذا نعرف أن الحق واحد وأن الوصول إليه سهل يسير، فما علينا إلا

أن نأخذ الحق من مصدره ونسلك في فهمه واعتقاده مسلك من نقله إلينا من

الأصحاب والثقات من الأتباع من سلفنا الصالح، ولن تقوم للأمة قائمة إلا إذا اتبعت

ذلك المنهج وسلكت تلك الطريق فهي طريق الوحدة والجماعة ومن سلك غيرها فقد

بغى الفرقة والضعف والهوان، ووقع في وعيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم

- لمن سلك غير طريق أصحابه ومن تبعهم من الفرقة الناجية حيث قال: «كلهم

في النار إلا واحدة، قالوا: ومن هي؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي» .

أما متى يكون التمكين؟ فهذا علمه عند الله، وما على المؤمن إلا أن يسلك

طريق الحق وسبيل الأصحاب والأتباع من السلف الصالح، وأن يعمل على نشر

دينه وعقيدة أهل السنة والجماعة، وأن يبث العلم في الناس، فأكثر ما يؤتى الناس

بسبب الجهل والهوى، والجهل دواؤه العلم فمن تعلم العلم الشرعي فقد أخذ بأسباب

الهدى والتقى، فلا يمنعه الهوى من اتباع الحق.

وإن كنت واجداً من أهل العلم من ليس تقياً ولا موفقاً إلا أن الغالب على من

تزود بالعلم الشرعي أن يكون أقرب إلى الحق ممن لا علم عنده من العوام

والأعراب. قال تعالى: [هَلْ يَسْتَوِي الَذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ] وقال:

[إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ] ، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) ، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم:

(.. ولتفشوا العلم، ولتجلسوا حتى يُعَلَّم من لا يَعْلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون

سراً) ، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه

من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساء

جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» [٣] .

فتعليم الناس العلم الشرعي، وتربيتهم على عقيدة السلف، هو أول طريق

جمع الكلمة ولم الشتات، وعلى طلبة العلم الأخذ من أفواه الشيوخ والعلماء وعدم

الاتكال على الكتب والصحف فذلك هو سبيل السلف في أخذ العلم وتلقيه، فسيرة

الشيخ وسلوكه جزء من العلم الذي يأخذه عنه التلاميذ، فإذا سلك الشيخ في أخذه

وأدائه وتعليمه منهج السلف في الأخذ والفهم والتعليم، وعلم طلابه أدب الطلب قبل

العلم، وأدب الاختلاف قبل الخلاف، وأسلوب الحوار قبل الجدال، والانتصار لله

لا للنفس، وقبول الحق ولو كان على لسان الخصم وعدم أخذ الناس بالظن، أو

البحث عن عثراتهم ومعايبهم، أو تجريحهم بما لا يجرح، وغرس في نفوسهم حب

الله وحب رسوله - صلى الله عليه وسلم -، واحترام السلف وانزالهم منازلهم التي

يستحقونها، إلى غير ذلك مما أثر عن سلفنا الصالح، إذا فعل أهل العلم - طلاباً

وشيوخاً - ذلك الأمر فسيتغير الحال، وتنجلي الغمة، وتتفق الكلمة وتقوى الأمة،

ويعز الله جنده ويمكن لهم في أرضه، وهذا أمل نرى بوادره آخذة في الظهور

فحلقات الدروس، وندوات المساجد والمحاضرات المختلفة نرى الاقبال عليها كبيراً، والرغبة فيها شديدة، وأثرها على طلاب العلم خاصة، وعلى المجتمعات

الإسلامية عامة بَيَّن ظاهر، رغم ما نرى في هذه المجتمعات من مظاهر الانحراف

والفساد.

ومادام الكتاب والسنة المصدر هما المرجع عند الاختلاف، فعلى كل طائفة أن

تنظر بعين الانصاف لترى ماذا تركت من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه

وسلم -، أو أوُلت من نصوصهما، أو ردت من أحكامهما، وعلى أهل العلم أن

يلتقوا ليأخذوا الحق من مصدره، ولا تمنع الأنفة المخطئ من الرجوع إلى الحق اذا

ظهرت حجة خصمه إن كان صادقاً في بحثه وحواره، لأن من كانت بغيته الحقيقة

وهدفه الهدى والسلامة من الضلال، فظهور الحق مع خصمه يسعده ويرضيه

كظهوره على يديه، أما من كان خصامه وجداله لشخصه لا للحق فإن هواه يمنعه

من اتباع الحق إذا كان مع مخالفه.

ولقد كان أئمة أهل السنة والجماعة من سلفنا الصالح مثالاً يحتذى في أدب

الحوار والنقاش، وفي أدب التعلم والتعليم، فهذا أحدهم يقول: ما جادلت أحداً إلا

وتمنيت أن يكون الحق على لسانه، وهذا عبد الله بن المبارك يقول: (طلبت

الأدب ثلاثين سنة، وطلبت العلم عشرين سنة، وكانوا يطلبون الأدب ثم العلم) ،

ويقول: (طلبنا العلم للدنيا، فدلنا على ترك الدنيا) .

وهذا الاسترسال في بيان حال الأمة وسبيل جمع كلمتها لا يبعدنا عن بيان

الآيات السالفة الذكر، فإن حال أمة الإسلام - من حب للحياة الدنيا وركون إلى

الدعة وترك الجهاد - يشبه في بعض جوانبه حال اليهود الذين يحرصون على (حياة) ويهابون الموت ولو كان سبيلاً لعزهم ومجدهم، ومن خاف الموت وترك الجهاد، وفي تركه الهوان والذلة، وهذا ما تعيشه الأمة اليوم إذ طوت راية الجهاد التي كانت ترهب أعداء الله من اليهود والنصارى وغيرهم من أمم الأرض الكافرة، واستبدلت به ولاءً لأعدائها ومغتصبي أرضها وأوطانها، وتنكرت لدعوة الجهاد بعد أن تركت شرع الله وحكمه، ولا خلاص للأمة مما هي فيه إلا أن ترجع إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعقيدة السلف الصافية من شوائب الشرك بصدق وإخلاص وثقة فيما وعد الله.

إما إن ادَّعت الرجوع إلى لله للتجربة الإسلامية في اصطلاح الأوضاع الفاسدة

فهذه توبة منافق مرد على النفاق لا إخلاص فيها ولا صدق نية.

رزقنا الله وإياكم العمل الصالح الخالص لوجهه، وإلى لقاء في عدد قادم إن

شاء الله تعالى.


(١) سنن الترمذي / ٢٦، وانظر العدد الثاني من (البيان) مقال (التجديد في الإسلام) جزى الله كاتبه خيراً.
(٢) صحيح مسلم ٣ / ١٥٢٣، النظر العدد الأول من (البيان) ففيه تخريج موسع للحديثين.
(٣) صحيح البخاري، كتاب العلم ١ / ١٥٩، مع فتح الباري.