للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

مُتَعَرِّضٌ لِلَعْنَتِهِ قَدْ هَانَ حَقُّهُ وَأَمْرُهُ عَلَيْهِ فَأَضَاعَهُ، وَهَانَ نَهْيُهُ عَلَيْهِ فَارْتَكَبَهُ وَأَصَرَّ عَلَيْهِ؟ وَكَيْفَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِرَبِّهِ مَنْ بَارَزَهُ بِالْمُحَارَبَةِ، وَعَادَى أَوْلِيَاءَهُ، وَوَالَى أَعْدَاءَهُ، وَجَحَدَ صِفَاتَ كَمَالِهِ، وَأَسَاءَ الظَّنَّ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَظَنَّ بِجَهْلِهِ أَنَّ ظَاهِرَ ذَلِكَ ضَلَالٌ وَكُفْرٌ؟ وَكَيْفَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِرَبِّهِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَأْمُرُ وَلَا يَنْهَى وَلَا يَرْضَى وَلَا يَغْضَبُ؟ .

وَقَدْ قَالَ اللَّهُ فِي حَقِّ مَنْ شَكَّ فِي تَعَلُّقِ سَمْعِهِ بِبَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ، وَهُوَ السِّرُّ مِنَ الْقَوْلِ: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سُورَةُ فُصِّلَتْ: ٢٣] .

فَهَؤُلَاءِ لَمَّا ظَنُّوا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا يَعْمَلُونَ، كَانَ هَذَا إِسَاءَةً لِظَنِّهِمْ بِرَبِّهِمْ، فَأَرْدَاهُمْ ذَلِكَ الظَّنُّ، وَهَذَا شَأْنُ كُلِّ مَنْ جَحَدَ صِفَاتِ كَمَالِهِ، وَنُعُوتَ جَلَالِهِ، وَوَصَفَهُ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ، فَإِذَا ظَنَّ هَذَا أَنَّهُ يُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ كَانَ هَذَا غُرُورًا وَخِدَاعًا مِنْ نَفْسِهِ، وَتَسْوِيلًا مِنَ الشَّيْطَانِ، لَا إِحْسَانَ ظَنٍّ بِرَبِّهِ.

فَتَأَمَّلْ هَذَا الْمَوْضِعَ، وَتَأَمَّلْ شِدَّةَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَكَيْفَ يَجْتَمِعُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ تَيَقُّنُهُ بِأَنَّهُ مُلَاقٍ اللَّهَ، وَأَنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ وَيَرَى مَكَانَهُ، وَيَعْلَمُ سِرَّهُ وَعَلَانِيَتَهُ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ مِنْ أَمْرِهِ، وَأَنَّهُ مَوْقُوفٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَمَسْئُولٌ عَنْ كُلِّ مَا عَمِلَ، وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى مَسَاخِطِهِ مُضَيِّعٌ لِأَوَامِرِهِ، مُعَطِّلٌ لِحُقُوقِهِ، وَهُوَ مَعَ هَذَا يُحْسِنُ الظَّنَّ بِهِ، وَهَلْ هَذَا إِلَّا مِنْ خِدَعِ النُّفُوسِ، وَغُرُورِ الْأَمَانِيِّ؟

وَقَدْ قَالَ أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ: دَخَلْتُ أَنَا وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَقَالَتْ «لَوْ رَأَيْتُمَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَرَضٍ لَهُ، وَكَانَتْ عِنْدِي سِتَّةُ دَنَانِيرَ، أَوْ سَبْعَةٌ، فَأَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أُفَرِّقَهَا، قَالَتْ: فَشَغَلَنِي وَجَعُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى عَافَاهُ اللَّهُ، ثُمَّ سَأَلَنِي عَنْهَا فَقَالَ: مَا فَعَلْتِ؟ أَكُنْتِ فَرَّقَتِ السِّتَّةَ الدَّنَانِيرَ؟ فَقُلْتُ: لَا وَاللَّهِ لَقَدْ شَغَلَنِي وَجَعُكَ، قَالَتْ فَدَعَا بِهَا، فَوَضَعَهَا فِي كَفِّهِ، فَقَالَ: مَا ظَنُّ نَبِيِّ اللَّهِ لَوْ لَقِيَ اللَّهَ وَهَذِهِ عِنْدَهُ؟ وَفِي لَفْظٍ: مَا ظَنُّ مُحَمَّدٍ بِرَبِّهِ لَوْ لَقِيَ اللَّهَ وَهَذِهِ عِنْدَهُ.»

فَيَا لَلَّهِ مَا ظَنُّ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ وَالظَّلَمَةِ بِاللَّهِ إِذَا لَقَوْهُ وَمَظَالِمُ الْعِبَادِ عِنْدَهُمْ؟ فَإِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ قَوْلُهُمْ: حَسَّنَّا ظُنُونَنَا بِكَ، إِنَّكَ لَنْ تُعَذِّبَ ظَالِمًا وَلَا فَاسِقًا، فَلْيَصْنَعِ الْعَبْدُ مَا شَاءَ، وَلِيَرْتَكِبْ كُلَّ مَا نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ، وَلِيُحْسِنْ ظَنَّهُ بِاللَّهِ، فَإِنَّ النَّارَ لَا تَمَسُّهُ، فَسُبْحَانَ اللَّهِ! مَا يَبْلُغُ الْغُرُورُ بِالْعَبْدِ، وَقَدْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِقَوْمِهِ: {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ - فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [سُورَةُ الصَّافَّاتِ: ٨٦ - ٨٧] .

<<  <   >  >>