ونصل إلى الصورة الثالثة، التي بينت هذه السيرة المترابطة للمؤمنين، من يوم أن جاء الإسلام إلى نهاية الدنيا، وكان الأولون من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتابعيهم بإحسان، المثل المدهش لها، وهي الصورة الرضية النظيفة الواعية، التى تبرز أهم ملامح التابعين، بل تبرز أخص خصائص الأمة المسلمة على الإطلاق، في جميع الأوطان والأزمان، والتى وضحت لنا ألوهية هذه الدعوة وربانيتها، فهؤلاء القوم صنع الله، إذ لو كانوا تربية شخص فمن الذى ربى من بعدهم، وإذا كانت تعاليمه، فما الذي حملهم عليها، وربطهم بها، وأقام الوازع في نفوسهم من مخالفتها، ومن الذى جعل الأول والآخر والقريب والبعيد على نفس النهج.
هؤلاء الذين جاءوا من بعد المهاجرين والأنصار، سمة نفوسهم أنها تتوجه لربها طلباً للمغفرة، لا لنفسها فقط، بل لكل من سبقها بالإيمان، وتتوجه لربها كذلك بطلب براءة القلب من الغل للذين آمنوا كافة.
تتجلى إذن من وراء تلك النصوص، طبيعة هذه الأمة، وصورتها الوضيئة، في هذه الحياة، وتظهر الآصرة الوثيقة، التي تربط أول هذه الأمة بآخرها، وآخرها بأولها، في تضامن وتكافل وود وتعاطف، بل بشعور بوشيجة القربى العميقة، التى تتخطى الزمان والمكان والجنس والنسب، وتتفرد وحدها في القلوب، ليذكر المؤمن بالحب أخاه، بعد هذه القرون المتطاولة، في إعزاز وكرامة وشوق، كذكره الحي أو أشد (١).
إنها كتيبة واحدة على مدار الزمان، واختلاف الأوطان، تحت راية الله تغذ السير صعداً إلى الأفق الكريم.
تلك صورة الأخوة كما ذكرها القرآن، وبين فيها القول، وفصل وأبدى وأوضح،
(١) انظر سيد قطب، في ظلال القرآن (٦/ ٣٥٢٦ - ٣٥٢٧)، باختصار.