ولذلك رأينا الصحابة الأولين في مكة، لا ينقصهم التكافل والتراحم والمحبة والمودة، وإن كانوا لا يستطيعون في أحوال كثيرة أن يوقفوا، أو أن يقفوا أمام طوفان الظلم، الذي يغشى معظمهم، ومع ذلك لا ينفكون عن مواساة إخوانهم، وجدانياً، وأن يشاركوهم الشعور بما هم فيه؛ إذ لم يتمكنوا أن يدفعوا عنهم شيئاً.
إن المحنة التى حصرتهم، لاشك جمعتهم في خندق واحد، يدفع كل عن إخوانه، كما يدفع عن نفسه، ويقف فيه عاري الصدر، محتملاً الأذى في سبيل بقاء هذه الجماعة المؤمنة، التي تعبد الله تعالى، حفاظاً على الدعوة، وتضحية بالنفس فما دونها، رخيصاً في سبيل دينه، ينتظر موعود الله بالنصر أو الشهادة، خاصة عندما باشر الإيمان شغاف قلوبهم.
- إن وجود القائد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يشاركهم، ويقاسمهم ذلك كله، وفي نفس الوقت يبث في قلوبهم ونفوسهم روح الإيمان، كان له أعظم الأثر في التحامهم وتوادهم وتراحمهم وتعاطفهم. خاصة عندما يكون - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القائم بالمواساة، والتعاطف، مع الضعيف الفقير قبل القوى المليء.
فكان واقعهم كفيلاً بقيام تلك الصورة الفريدة، من صور الأخوة والمحبة، لذا لم يكن ثَمَّ تشريع قرآني بها، إذ يكفى فيها واقع السنة العملى، فلما هاجروا إلى المدينة، ودخل في الإسلام من لم يعايشوا تلك المرحلة، ويتحملوا مشاقها، نزلت التشريعات والوصايا، تأمر بذلك وتبشر به، وإن كانت النواة القدوة قد تعمقت جذورها، وقويت ساقها، مثالاً حياً وواقعاً حقيقياً، سرعان ما يدور في فلكه، الآتي الغريب، عن هذا العلو السامق، ليكون أحد لبناته التى تقوى البنيان، وتشد من أزره:{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ}[الأعراف: ٤٣].