وَوَدَّعْنَ مشتاقًا أَصَبن فُؤَادَه ... هَوَاهُنَّ إن لم يَصْرِهِ الله قاتِلُهْ
وصَرَيْتُ الماءَ: إذا استقيتُه ثم قطعتُه، وصَرَيْتُ ما بينهم صَرْيًا؛ أي: فَصَلتُ، يقال: اختَصَمْنا إلى الحاكم فَصَرَى ما بيننا؛ أي: قطعَ ما بيننا وفَصَلَ، ذكره في "الصحاح".
يعني: يقول الله تعالى رؤوفًا به: يا ابن آدم! أيُّ شيءٍ يقطع مسألتَك مني؟ وأيُّ شيءٍ يرضيك حتى ينقطعَ طلبُك عند ذلك؟
قال التُّورِبشتي - رحمة الله عليه - في "شرحه": وفي كتاب "المصابيح": (ما يَصْرِيني منك)؛ وهو غلط، والصواب: ما يَصْرِيك مني، كذا رواه المتقنون من أهل الرواية، ويمكن أن يقال: ما قاله في "المصابيح" صواب، ولكنه مقلوب، (ما يَصْرِيني منك) أصله: ما يَصْرِيك مني، فقلبَه للعلم به، والقلبُ كثيرٌ في كلام العرب داخلٌ في الفصاحة.
قوله:"أتستهزئ مني وأنتَ ربُّ العالمين؟ " الاستهزاءُ من الله تعالى مُحَالٌ؛ لأنه صفةُ المخلوق، وقد ذُكر غيرَ مرةٍ أن ما هو صفةُ الأجسام في الله سبحانه محالٌ، فإذا كان كذلك فهذه العبارة لا محالةَ مؤولةٌ، فتأويله يحتمل أن يحمل إلى سبق لسانه؛ لشدة الفرح، كما أخطأ في القول مَن ضلَّت راحلتُه بأرضٍ فلاةٍ وعليها طعامُه وشرابُه، فَأيسَ منها، ثم بعدَ ما وجدها وأخذ بخطامها قال من شدة الفرح:"اللهم أنتَ عبدي وأنا ربُّك"؛ فتحيَّر من غاية الفرح حتى أخطأ في كلامه، وسبقَ لسانه بهذا الكلام المعكوس، ويجوز أن يريد به: إنك سبحانك تجلُّ أن تخاطبني بخطاب المستهزئين، فلِمَ تفعل ذلك وأنتَ أكرم الأكرمين؟ أو يريد: إن الآخرةَ ليست دارَ تكليفٍ، فلا يُؤاخذون بمِثْل هذه الأشياء.