للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

في حديث أبي هريرة بقوله "أنْ تَخشى الله كَأَنَّكَ تَرَاهُ" (١) فَعَبَّرَ عن المُسَبِّبِ باسم السَّبَب تَوَسُعًا، ثم الألف واللام في "الإحسان" المسؤول عنه المعهود المذكور في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: ٢٦]، و {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إلا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: ٦٠]، {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: ١٩٥] فلَمَّا تكَرَّرَ الإِحْسَانُ في القُرآن في غيرِ آيٍ، ورَتَّبَ عليهِ هذا الثواب الجَسيم، سأل عنهُ الرُّوح الأمين، فأجابَهُ لِتَعْمَلَ بهِ أُمَّته، فيفوزوا بالأَجْرِ الجَسِيم، فقال: "الإحسَان: أن تَعْبُدَ اللهَ" إلى آخره (٢).

وهوَ مِن جَوامِعِ كلِمِه الذي أُوتيَها؛ لأنَّهُ لو قَدَّرْنا أن أحدًا قامَ في عبادةٍ وهو يُعاين ربَّهُ -تعالى- لم يترك شيئًا مما يَقْدِرُ عليه مِن الخُضوع والخشوع وحُسن الصَّمت، واجتماعه بظاهره وباطنه على الاعتناء بتتميمها على أحسن الوجوه إلَّا أَتَى بهِ، فقال: اعبد الله في جميع أحوالك كعبادته في حال العيان، فإنَّ التَّتميم المذكور في حال العيان إنما كان لِعِلم العَبْدِ باطّلاع ربّه عليه -تبارك وتعالى-، فلا يُقدِم على تَقصِير في هذا الحال إلَّا اطلع عليه، وهذا المعنى موجودٌ في عدَم رؤية العبد، فينبغي أن يعمل بمقتضاه.

فمقصود الكلام: الحثُّ على الإخلاص في العبادة، ومُراقبة العبدِ ربَّهُ -تبارك وتعالى- في إتمام الخشوع والخضوع وغير ذلك.

وقد نَدَبَ أهلُ الحقائق إلى مُجالسة الصَّالِحين ليكون ذلك مانِعًا مِن تَلَبُّسِهِ بشيءٍ مِن النَّقائِصِ احتِرَامًا لهم واستحياءً منهم، فكيف بمن لا يزال الله -تبارك وتعالى- مُطَّلِعًا عليه في سِرِّه وعلانيته (٣).


(١) رواه البخاري (١/ ١٩ رقم ٥٠)، ومسلم (١/ ٤٠ رقم ١٠).
(٢) هذا الوجه "الحادي والعشرون" مستفَادٌ مِن "المفهم" (١/ ١٤٣ - ١٤٤).
(٣) انظر: "شرح مسلم" للنووي (١/ ٢٧٢)، و"الفتح" لابن رجب (١/ ٢١١ - ٢١٥).

<<  <   >  >>