ويسعدني أن تكون مشاركتي في هذه السلسلة العلمية المباركة بإخراج هذه الرسالة التي سطّرها "حافظ الإِسلام، وأعلى أهل الأرض إسناداً في الحديث والقراءات مع الدين والثقة والعلم"(١): أبو طاهر أحمد بن محمد بن أحمد السِّلَفىِ الأصبهاني (ت ٥٧٦ هـ)، وهي مقدمة على كتاب الاستذكار في شرح ما رسمه الإِمام مالك في موطئه من الرأي والآثار, لأبي عمر ابن عبد البر النَّمَري القرطبي (ت ٤٦٣ هـ)، وَضَعَهَا لطلاّبه مدخلًا إلى هذا الكتاب العظيم قبل أن يشرع في تدريسه.
وتُعَدُّ هذه الرسالة من أقدم ما صُنِّفَ في افتتاحيات الكتب، إن لم تكن أقدمها، وكتب الافتتاحيات مصنّفات يضعها العالم أو يمليها برسم الشروع في إقراء كتاب من الكتب أو تدريسه، ويتناول فيها ترجمة صاحب الكتاب المراد إقراؤه، ويتحدث عن خصائص كتابه، ومنهجه فيه، كما أنه يَسُوقُ أسانيده إليه، وَيَعْرِض ما قيل في الثناء عليه نثراً ونظماً.
وقد أبان الحافظ السِّلفي في هذه الرسالة عن نشاطه العلمي بالمدرسة العادلية -التي تسمّت فيما بعد باسمه- وتحدّث عن مجالسه العلمية، وعَزْمِهِ على إملاء كتاب الموطأ للإِمام مالك رحمه الله، ثم العدول عنه إلى كتاب الاستذكار، وفي غضون ذلك أشاد بالإِمام مالك وبكتابه الموطأ، وذَكَرَ نُبَذاً من ثناء العلماء عليه، ثم ترجم للحافظ ابن عبد البر ترجمة مستفيضة أكثر فيها من الثناء عليه وعلى تصانيفه، وتفرّد فيها بذكر بعض الأقوال في ولادته ووفاته، وخَتَمَ الكتاب بذكر بعض أشعاره في الثناء على تآليفه، وبخاصة كتاب الاستذكار الذي عزم على إملائه وتدريسه لطلابه.
ولهذا كانت هذه الرسالة شهادة من الحافظ السِّلفي بجلالة ابن عبد البر، وعلو كعبه، وسعة علومه، وشهادة منه أيضاً لكتابه الاستذكار بعدم وجود نظير له
(١) غاية النهاية في طبقات القراء لابن الجوزي ١/ ١٠٢.