وبين الجاهلية كلها، وتبين كيف ينظر الطاغوت إلى هذا الدين، وكيف يحس فيه الخطر على وجوده، كما تبين كيف يدرك المؤمنون حقيقة المعركة بينهم وبين الطاغوت:
إنه بمجرد أن قال موسى عليه السلام لفرعون يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ تبين مدلول هذه الدعوة إلى رَبِّ الْعالَمِينَ إنه رد السلطان كله إلى الله برد عبودية العالمين كلها إلى رب العالمين، وبناء على هذا المدلول طلب موسى إطلاق سراح بني إسرائيل، فإنه إذا كان الله رب العالمين فما يكون لعبد من عبيده- وهو فرعون المتجبر الطاغي- أن يعبدهم لنفسه فهم ليسوا عبيدا إلا لرب العالمين، إن رد الربوبية كلها لله سبحانه معناه رد الحاكمية كلها له فالحاكمية هي مظهر ربوبية الله للناس- وهم من العالمين- وهي تتجلى في العالمين كذلك بخضوعهم لله وحده، فلا يكون الناس معترفين بربوبية الله لهم إلا إذا خضعوا له وحده وإلا إذا خلصت عبوديتهم لهذه الربوبية، أو بتعبير آخر لهذه الحاكمية وإلا فقد أنكروا ربوبية الله لهم متى خضعوا لحاكمية أحد غيره لا يحكمهم بشرعه.
ولقد أدرك فرعون وملؤه خطر الدعوة إلى رَبِّ الْعالَمِينَ وأحسوا أن توحيد الربوبية معناه سلب سلطان فرعون- وسلطانهم المستمد منه- فعبروا عن هذا الخطر بأن موسى يريد أن يخرجهم من أرضهم قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ وما أرادوا، إلا أن هذه الدعوة إلى رب العالمين لا تحمل إلا مدلولا واحدا هو انتزاع السلطان من يد العبيد- الطواغيت- ورده إلى صاحبه- سبحانه- وهذا معناه- من وجهة نظرهم- الإفساد في الأرض أو كما يقال اليوم في قوانين الجاهلية التي تغتصب سلطان الله- أي تغتصب ربوبيته وتزاول اختصاصاتها ولو لم تقل هذا باللسان، يكون هذا «قلبا» لنظام الحكم لأن نظام الحكم في الجاهليات يقوم على ربوبية عبد من العبيد، لبقية العبيد بينما الدعوة إلى رب العالمين تعني أن تكون الربوبية على العبيد لخالق العبيد وكذلك قال فرعون للسحرة الذين بهرهم الحق فآمنوا برب العالمين وخلعوا ربقة العبودية له بهذا الإعلان: إنهم يمكرون لإخراج أهل المدينة من مدينتهم وهددهم بأبشع العذاب والنكال. قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَ