للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كذلك تحتاج في البقاء إلى أن يعوض منها الطعام والشراب، فإن حبسها عنها آذاها لتحلل إلى الضعف الذي لا تفارق مثله الجنابة، والصائم يحبسهما عن نفسه فهو إذا تأذى منه مدة طويلة وأيامًا متتابعة يعرض نفسه لضعف بهذا، أو يفرط عليه فيقتله. ولولا أن الصوم إذا اتصل خيف منه على الصائم، لم يرخص للمسافر والمريض في الفطر، فإذا رخص لهما فيه لأنه سبب لضعف البدن، المرض سبب له، والرفت سبب له. فلا يؤمن أن يكون من اجتماع شيء مكف عاجل. وليس هذا أيضًا مما يخفي، لأن صيام اليوم الواحد يضعف في العيان فإذا تواتر انهال وانحل، والنقصان بالصائم يتعجل. ثم قد يصير النهول والنحول إلى حد لا يرجع منه إلى الصلاح، ولا يزال يتزايد حتى يكون منه الهلاك فصار إلا يسأل في هذا بمنزلة هذه، وهو الأكل والشرب، فإن الواحد قد يأكل أكلة في غير وقتها فيبلط به فيموت، وقد يجد في مرض منه فلا يزال يثقل عليه حتى يهلكه، فصح أن الأمر على ما وصفنا، بدءًا من أن الصيام تعريض من الصائم نفسه للنقصان الذي قد يقف، وقد يؤدي إلى الهلاك، كالصائم إذًا بصيامه مؤثر الرجوع إلى الله تعالى، مستسلم لذلك منشرح الصدر له، وكان صومه له عز اسمه من هذا الوجه.

فأما سائر الأعمال المفروضة على العبد فليس في شيء منها هذا المعنى، وإنما كلها أعمال تؤدي مع بقاء النفس وسلامتها، فصار ذلك فرقًا بينه وبينها. وأما قوله (وأنا أجزي به). فمعناه -والله أعلم -وأنا القائم بجزائه، والمالك له وليس ذلك مما أخبرتكم به من أن الحسنة بعشر أمثالها. فإن مثل النفقة في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة. لكن جزاء الصوم يجل عن هذا كله وأنا أعلم به وإلي أمره. فإن ذكر ذاكر الجهاد في سبيل الله، فليعلم أن الجهاد غير مود إلى الهلاك الذي يؤدي حبس الطعام والشراب عن البدن، لأن الله عز وجل أخبر أن الأمر بخلاف هذا، ونهانا أن نقول لمن يقتل في سبيل الله أنه ميت، ووصفه بأنه حي عنده يرزقه، وأنه فرح مستبشر، ثم يرحو أن يلحقه من إخوانه. ولم يخبرنا عز وجل عمن كان الصوم سببًا لهلاكه بمثل هذه الحال. فعلمنا أنه كسائر الأموات الذي ينقطع عنهم رزق الدنيا، فلا

<<  <  ج: ص:  >  >>