{هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ} [الْحَج: ٧٨] وَأَخْرَجَا عَن مُجَاهِد وَقَتَادَة مثله. وَأخرجه عبد بن حميد وَابْن الْمُنْذر عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَأخرجه ابْن أبي حَاتِم عَن مقَاتل بن حبَان. وَحَاصِل هَذِه الْآثَار عَن هَؤُلَاءِ الَّذين هم أَئِمَّة الدّين وَالسَّلَف الْمُفَسّرين من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وأتباعهم أَن الله سمى هَذِه الْأمة مُسلمين فِي أمِّ الْكتاب وَهُوَ اللَّوْح الْمَحْفُوظ، وَفِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَسَائِر كتبه الْمنزلَة وَفِي الْقُرْآن، وَأَنه اختصهم بِهَذَا الِاسْم من دون سَائِر الْأُمَم، وَيصِح رُجُوع ضمير هُوَ لإِبْرَاهِيم كَمَا قَالَه ابْن أبي زيد لقَوْله: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [الْبَقَرَة: ١٢٨] دَعَا بذلك لنَفسِهِ ولولده وهما نبيان ثمَّ دَعَا لأمة من ذُريَّته وَهِي هَذِه الْأمة وَلِهَذَا عقبه ب {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} [الْبَقَرَة: ١٢٩] إِلَخ وَهُوَ نَبينَا إِجْمَاعًا فَأجَاب الله دعاءه بالأمرين يبْعَث مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهُم وبتسميتهم مُسلمين، وَلِهَذَا أَشَارَ تَعَالَى إِلَى أَن إِبْرَاهِيم هُوَ السَّبَب فِي ذَلِك بقوله: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الْحَج: ٧٨] وَمِنْهَا: قَوْله تَعَالَى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلَامَ دِيناً} [الْمَائِدَة: ٣] هُوَ ظَاهر فِي الِاخْتِصَاص بهم لِأَن تَقْدِيمه يستلزمه، ويفيد أَنه لم يرضه لغَيرهم كَمَا يَقْتَضِيهِ كَلَام أهل الْبَيَان. وَمِنْهَا: مَا فِي حَدِيث إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَابْن أبي شيبَة: (أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ليهودي حلف وَالله مَا اصْطفى الله مُحَمَّدًا على الْبشر: بل يَا يَهُودِيّ آدم صفّى الله وَإِبْرَاهِيم خَلِيل الله ومُوسَى نجى الله وَعِيسَى روح الله وَأَنا حبيب الله، بل يَا يَهُودِيّ تسمي الله باسمين سمى بهما أمتِي هُوَ السَّلَام وسمى بهَا أمتِي الْمُسلمين) الحَدِيث، وَهُوَ صَرِيح فِي اخْتِصَاص أمته بِوَصْف الْإِسْلَام وَإِلَّا لقَالَ الْيَهُودِيّ وَنحن أَيْضا كَذَلِك. وَفِي حَدِيث النَّسَائِيّ وَغَيره (من دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّة فَإِنَّهُ من خبء جَهَنَّم، قَالَ رجل: يَا رَسُول الله وَإِن صَامَ وَصلى؟ قَالَ: نعم، فَادعوا بدعوة الله الَّتِي سَمَّاكُم بهَا الْمُسلمين، وَالْمُؤمنِينَ عباد الله) .
وَأخرج أَبُو نعيم وَغَيره عَن وهب قَالَ: أوحى الله إِلَى شُعَيْب إِنِّي باعث نَبيا أُمِّيا مولده بِمَكَّة إِلَى أَن قَالَ وَالْإِسْلَام مِلَّته وَأحمد اسْمه، وَلَا يُعَارض ذَلِك قَوْله تَعَالَى: {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: ٣٥ ٣٦] لما مر أَن وصف الْإِسْلَام يُطلق على الْأَنْبِيَاء أَيْضا وَالْبَيْت الْمَذْكُور بَيت لوط صلى الله على نَبينَا وَعَلِيهِ وَسلم وَلم يكن فِيهِ مُسلم إِلَّا هُوَ وَبنَاته فَأطلق عَلَيْهِ أَصَالَة وعليهنّ تَغْلِيبًا أَو تبعا تَشْرِيفًا لَهُم، إِذْ قد يخْتَص أَوْلَاد الْأَنْبِيَاء بأَشْيَاء لَا يشاركهم فِيهَا بَقِيَّة الْأُمَم، كَمَا اخْتصَّ سيدنَا إِبْرَاهِيم ابْن نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَنَّهُ لَو عَاشَ كَانَ نَبيا، وكما اخْتصّت فَاطِمَة بِأَنَّهَا لَا يتَزَوَّج عَلَيْهَا وبأنها تمكث فِي الْمَسْجِد مَعَ الْحيض والجنابة وَكَذَلِكَ أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ، وَكَذَا عليّ وَالْحسن وَالْحُسَيْن رَضِي الله عَنْهُم اختصوا بِجَوَاز الْمكْث فِي الْمَسْجِد مَعَ الْجَنَابَة كل ذَلِك تبع لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى عَن أَوْلَاد يَعْقُوب: {وَوَصَّىابِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِىَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىالَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إَلَاّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [الْبَقَرَة: ١٣٢] إِمَّا على سَبِيل التّبعِيَّة إِن لم يَكُونُوا أَنْبيَاء وَإِلَّا فَوَاضِح، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ مُوسَىاياقَوْمِ إِن كُنتُمْ ءامَنْتُمْ بِ اللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِن كُنْتُم مُّسْلِمِينَ} [يُونُس: ٨٤] إِمَّا أَن يحمل على التغليب فَإِن فيهم هَارُون ويوشع وهما نبيان فأدرج بَقِيَّة الْقَوْم فِي الْوَصْف تَغْلِيبًا، أَو يحمل على أَن المُرَاد إِن كُنْتُم منقادين لي فِيمَا آمركُم بِهِ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَوَصَّىابِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِىَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىالَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إَلَاّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [الْبَقَرَة: ١٣٢] فَهُوَ من قَول إِبْرَاهِيم لِبَنِيهِ وَيَعْقُوب لِبَنِيهِ وَفِي بني كل الْأَنْبِيَاء فَوَقع تَغْلِيبًا وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْءَامِنُواْ بِى وَبِرَسُولِى قَالُواءَامَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [الْمَائِدَة: ١١١] فَإِن الحواريين فيهم الْأَنْبِيَاء الثَّلَاثَة المذكورون فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ القَرْيَةِ إِذْ جَآءَهَا الْمُرْسَلُونَ} [يس: ١٣] الْآيَة، نَص الْعلمَاء على أَنهم من حوارِي عِيسَى وَأحد قولي الْعلمَاء أَن الثَّلَاثَة أَنْبيَاء ويرشحه ذكر الوحى إِلَيْهِم، وَلَا يُؤَيّد القَوْل الْمَرْجُوح آيَة: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الِدِينِ مَا وَصَّىابِهِ نُوحاً} [الشورى: ١٣] إِلَخ، خلافًا لمن وهم فِيهِ لِأَن المُرَاد اسْتِوَاء الشَّرَائِع كلهَا فِي أصل التَّوْحِيد، وَلَيْسَ الْإِسْلَام اسْما للتوحيد فَقَط بل لمجموع الشَّرِيعَة بفروعها وأعمالها، على أَن مَحل النزاع إِنَّمَا هُوَ فِي أَمر لَفْظِي هُوَ أَن تِلْكَ الشَّرَائِع هَل تسمى إسلاماً أَو لَا؟ وَالرَّاجِح لَا، بِنَاء على أنَّ الْإِطْلَاق يتَوَقَّف على الْوُرُود، وَلم يرد فِي شَيْء من الشَّرَائِع تَسْمِيَته إسلاماً من غير تَغْلِيب أَو تَبَعِيَّة لنَبِيّ، فَلَا يُطلق عَلَيْهِ كَمَا لَا يُطلق على شَيْء من الْكتب أَنه قُرْآن، وَلَا على شَيْء من أَوَاخِر آي الْقُرْآن أَنه سَجَع بل فواصل وقوفاً مَعَ مَا ورد كَمَا قَالَ النَّوَوِيّ. لَا يُقَال فِي حق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عزّ وجلّ وَإِن كَانَ عَزِيزًا جَلِيلًا، وعَلى الرَّاجِح فَوجه الِاخْتِصَاص بِهَذَا الِاسْم هُوَ أَن الْإِسْلَام اسْم للشريعة الْمُشْتَملَة على فواضل الْعِبَادَات المختصة بِهَذِهِ الْأمة من الصَّلَوَات الْخمس وَصَوْم رَمَضَان وَالْغسْل من الْجَنَابَة وَالْجهَاد وَنَحْوهَا كَمَا أَفَادَهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute