وقد أنصف؛ فلذلك أتى الناظم - رحمه الله - فاعتبر المسألة بكلام العرب، فوجد دخول (من) على الأزمنة قليلًا لا يقوى أن يقاوم دخولها على الأمكنة ولا يقارب، فأقرها على ما هي عليه، ولم يطلق القول بالجواز، ولا حتم بالمنع، ولا شك فيما رأى أنه الصواب.
وقد تأول المانعون ما جاء من الشواهد مخالفًا لمذهبهم، فقدروا مصادر من قبل الزمان، فيقولون: التقدير: من تأسيس أول يوم، ومن مر حجج، ومن مر أزمان يوم حليمة، وكذلك سائرها: وهذا ضعيف من وجهين:
أحدهما: أن السماع هنا قد كثر كثرة تؤذن بأن التأويل فيها تكلف؛ إذ التأويل إنما يسوغ في النوادر، وليس هذا منها، وإن كان قليلًا، فمثله لا يصرف بالتأويل إلى خلاف ظاهره.
والثاني: أني سمعت شيخنا الأستاذ - رحمة الله عليه - يحكي عن شيخه أبي عبد الله بن عبد المنعم إبطال تقدير المصدر لما يلزم عليه من التسلسل، وأن مذهب الكوفين هو الصواب، لأنك إذا قدرت في الآية: من تأسيس أول يوم، اقتضى قصد التاريخ تقدير زمان قبل التأسيس حتى يكون المعنى: من زمان تأسيس أول يوم، فترجع المسألة إلى أول أمرها، فيفتقرون إلى تقدير مصدٍر هكذا أبدًا، وهو باطل، وهكذا سائر الشواهد، فالذي تلخص من هذا أن دخولها على الزمان ثابت غير مندفع، لكنه قليل عملًا بالاستقراء، ولمن معنى آخر سيذكره بعد هذا إن شاء الله.