ويمكن أن تثار هنا قضية تَوجُّه هرتزل إلى السلطان العثماني طالباً منه براءة لشركة استيطانية، مع أن الدولة العثمانية لم تكن دولة "متحضرة "، أي لم تكن غربية استعمارية. إن تفسير ذلك ببساطة هو أنه لم يكن قد تقرَّر بعد تقسيم الدولة العثمانية، وكانت القوتان البروتستانتيتان (إنجلترا وألمانيا) تقفان وراءها حتى تقف حاجزاً أمام النفوذ الأرثوذكسي الروسي والنفوذ الكاثوليكي الفرنسي. ومع هذا، كانت ثمة مؤشرات قد بدأت تلوح في الأفق، فإنجلترا كانت قد استولت على قبرص، ولكن الأهم أنها كانت قد استولت على مصر (١٨٨٢) ، وكانت أول دولة إسلامية تضمها إنجلترا، الأمر الذي كان يعني تعدياً صريحاً على الدولة العثمانية وعلى شرعيتها الإسلامية، وكان يعني بالتالي أن الوقت قد حان للتقسيم. وفي هذا الإطار تحرَّك هرتزل، فكان يتقدم لتركيا لا باعتبارها دولة متحضرة وإنما باعتبارها منطقة نفوذ ألمانية ثم إنجليزية. وقد كان يعلم ذلك تماماً، ولذا فإنه كان يلجأ دائماً إلى الحكومة الألمانية عسى أن تتوسط له عند السلطان. ولعل ما شجَّع هرتزل أن القوميات الجديدة، خصوصاً في وسط أوربا والبلغاريين والصرب والمجر، اقتطعت أوطانها أساساً من الدولة العثمانية تحت رعاية الدول الأوربية. وكان كل من كاليشر والقلعي يكتبان ويفكران على هذا المنوال حينما بدءا في التعبير عن النزعات الصهيونية الأولى. ولم يكن هرتزل استثناءً من القاعدة، ولذا فقد كان عليه أن يتقدم للدولة العثمانية مضطراً بسبب طبيعة الوضع القائم، ولكنه مع هذا كان يتحرك داخل إطار غربي وكان يسعى للحصول على الاعتراف الغربي به، أي أن مناوراته في تركيا تمت هي الأخرى في إطار «القانون الدولي العام» الذي وضعته الدول المتحضرة.