وَكُلُّ هَذَا لَا يُنَافِي مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ نُزُولِهَا فِي أَبِي بَكْرٍ أَوَّلًا, فَإِنَّ أَهْلَ الْيَمَنِ لَمْ يَرْتَدْ جَمِيعُ قَبَائِلِهِمْ يَوْمَئِذٍ, وَإِنَّمَا ارْتَدَّ كَثِيرٌ مِنْهُمْ مَعَ الْأَسْوَدِ وَثَبَتَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ مَعَ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأَبِي مُوسَى وَفَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِنْ عُمَّالِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَنَشَبَ بَيْنَ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ قِتَالٌ عَظِيمٌ حَتَّى قَتَلَ اللَّهُ الْأَسْوَدَ عَلَى يَدِ فَيْرُوزَ, وَأَيَّدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ عَلَى عَدْوِهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ, وَلَكِنْ لَمْ يَرْجِعْ أَمْرُهُمْ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ الْعَنْسِيِّ إِلَّا فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, فَإِنَّهُ لَمْ يَزَلْ يُتَابِعُ الْكَتَائِبَ مَدَدًا لِمُؤْمِنِهِمْ عَلَى كَافِرِهِمْ حَتَّى رَاجَعُوا الْإِسْلَامَ وَكَانُوا مِنْ أَعْظَمِ أَنْصَارِهِ حَتَّى صَارَ رُؤَسَاءُ رِدَّتِهِمْ كعمرو بن معديكرب وَقَيْسِ بْنِ مَكْشُوحٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ وَأَشَدِّهِمْ بَلَاءً فِي أَيَّامِ الرِّدَّةِ وَالْفُتُوحِ, فَحِينَئِذٍ عَادَ الْمَعْنَى إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَأَصْحَابِهِ وَهُمْ مِنْ أَصْحَابِهِ, وَكُلُّ هَذَا فِي شَأْنِ السَّبَبِ لِنُزُولِ الْآيَةِ, وَإِلَّا فَهِيَ عَامَّةٌ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ يُحِبُّ اللَّهَ وَيُحِبُّهُ وَيُوَالِي فِيهِ وَيُعَادِي فِيهِ وَلَا يَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ.
وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَأَصْحَابُهُ أَسْعَدَ النَّاسِ بِذَلِكَ وَأَقْدَمَهُمْ فِيهِ وَأَسْبَقَهُمْ إِلَيْهِ وَأَوَّلَ مَنْ تَنَاوَلَتْهُ الْآيَةُ, رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ وَعَنْ أَنْصَارِ الْإِسْلَامِ وَحِزْبِهِ أَجْمَعِينَ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ, قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ, فَمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ" عَزَّ وَجَلَّ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ, فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ, وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ١.
وَتَفَاصِيلُ مَوَاقِفِهِ الْعِظَامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَشْهُورَةٌ مَبْسُوطَةٌ فِي كُتُبِ السِّيرَةِ
١ تقدم تخريجه قريبا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute