فكانت النتيجة أن تعذر على الناس أن يدركوا حتى الغرض الحقيقي والمقصد الجوهري من دعوة القرآن فإذا دعاهم القرآن ألا يتخذوا من دون الله إلهاً، ظنوا أنهم وفّوا مطالبة القرآن حقها لما تركوا الأصنام واعتزلوا الأوثان؛ والحال أنهم لا يزالون متشبثين بكل ما يسعه ويحيط به مفهوم (الإله) ما عدا الأوثان والأصنام، وهم لا يشعرون أنهم بعملهم ذلك قد اتخذوا غير الله إلهاً. وإذا ناداهم القرآن أن الله تعالى هو الرب فلا تتخذوا من دونه رباً، قالوا ها نحن أولاء لا نعتقد أحداً من دون الله مربياً لنا ومتعهداً لمرنا، وبذلك قد كملت عقيدتنا في باب التوحيد، والواقع أنه قد أذعن أكثرهم لربوبية غير الله من حيث المعاني الأخرى التي تطلق عليها كلمة (الرب) غير هذا المعنى – المربي-. وإذا خاطبهم القرآن أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت، قالوا: لا نعبد الأوثان، ونبغض الشيطان ونلعنه ولا نخشع إلا لله، فقد امتثلنا هذا الأمر القرآني أيضاً امتثالاً، والحال أنهم لا يزالون متمسكين بأذيال الطواغيت الأخرى غير الأصنام المنحوتة من الأحجار، وقد خصوا سائر ضروب العبادة – اللهم إلا التأله- لغير الله، وقل مثل ذلك في (الدين) ، فإنه لا يفهم الناس من معنى إخلاص الدين لله تعالى غير أن ينتحل المرء ما يسمونه (الديانة الإسلامية) وألا يبقى في ملة الهنادك أو اليهود أو النصارى. ومن هنا يزعم كل من هو معدود من أهل الديانة الإسلامية أنه قد أخلص دينه لله، والحق أن أغلبيتهم ممن لم يخلصوا دينهم لله تعالى من حيث المعاني الواسعة التي تشتمل عليها كلمة (الدين) .
نتائج هذا الفهم الخاطئ
من الحق الذي لا مراء فيه أنه قد خفي على الناس معظم تعاليم القرآن، بل قد غابت عنهم روحه السامية وفكرته المركزية لمجرد ما غشي هذه المصطلحات الأربعة الأساسية من حجب الجهل. وذلك من أكبر الأسباب التي قد تطرق لأجلها الوهن والضعف إلى عقائدهم وأعمالهم على رغم قبولهم دين الإسلام وكونهم في عداد المسلمين. ومن أجل ذلك كله يجدر بنا أن نفصل معاني تلك المصطلحات الأربعة ونشرحها شرحاً كاملاً، ليتبين غرض القرآن الحقيقي وتعاليمه الأساسية.
ومع أني قد حاولت الإلمام بمفهوم تلك المصطلحات في مقالات لي عديدة تقدم لي كتابها، غير أن ما قد كتبته حتى الآن لا يكفي في حد ذاته لدرء الأخطاء التي قد تسربت إلى الأذهان في هذا الباب؛ ولا يكاد يقتنع به الناس ويطمئنون إليه لأنهم يحسبون كل ما آني به من الشرح والتفصيل لمعاني تلك الكلمات من غير استشهاد بآي الكتاب العزيز ومن غير استناد إلى معاجم اللغة - يحسبونه رأياً لي ارتأيته؛ والظاهر أن رأيي الشخصي لا يمكن أن يقنع الذين لا يرون رأيي ولا يوافقونني عليه على الأقل. فأردت في هذه الرسالة أن أبين المعاني الكاملة الشاملة لهذه المصطلحات الأربعة، من دون أن آتي في ذلك بقول لا يؤيده القرآن أو برأي لا يستند إلى معاجم اللغة.
وسأتناول بالبحث أولاً كلمة (الإله) ثم (الرب) ثم (العبادة) ثم (الدين) إن شاء الله تعالى.