الثَّانِي وَهُوَ مَا يُسْبَكُ فِي النَّارِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ {ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ} أَيْ لِيَجْعَلَ حِلْيَةً أَوْ نُحَاسًا أَوْ حَدِيدًا فَيُجْعَلُ مَتَاعًا، فَإِنَّهُ يَعْلُوهُ زَبَدٌ مِنْهُ، كَمَا يَعْلُو ذَلِكَ زَبَدٌ مِنْهُ، {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ}، أي إذا اجتمعا لإثبات الباطل وَلَا دَوَامَ لَهُ، كَمَا أَنَّ الزَّبَدَ لَا يثبت مع الماء، ولا مع الذهب والفضة مما سبك فِي النَّارِ، بَلْ يَذْهَبُ وَيَضْمَحِلُّ، وَلِهَذَا قَالَ: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً} أَيْ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ بَلْ يَتَفَرَّقُ وَيَتَمَزَّقُ وَيَذْهَبُ فِي جَانِبَيِ الْوَادِي، وَيَعْلَقُ بِالشَّجَرِ وَتَنْسِفُهُ الرِّيَاحُ، وَكَذَلِكَ خَبث الذهب والفضة والحديد والنحاس يذهب ولا يَرْجِعُ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَا يَبْقَى إِلَّا الْمَاءُ، وَذَلِكَ الذَّهَبُ وَنَحْوُهُ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ الله الأمثال}، كقوله تَعَالَى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلَاّ العالمون}. وقال بَعْضُ السَّلَفِ: كُنْتُ إِذَا قرأتُ مَثَلًا مِنَ الْقُرْآنِ فَلَمْ أَفْهَمْهُ بِكَيْتُ عَلَى نَفْسِي لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلَاّ الْعَالِمُونَ}، قال ابن عباس: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ احْتَمَلَتْ مِنْهُ الْقُلُوبُ عَلَى قَدْرِ يَقِينِهَا وَشَكِّهَا، فَأَمَّا الشَّكُّ فَلَا يَنْفَعُ مَعَهُ الْعَمَلُ، وَأَمَّا الْيَقِينُ فَيَنْفَعُ اللَّهُ به أهله، وهو قوله: {فَأَمَّا الزبد} وهو الشك {فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} وَهُوَ الْيَقِينُ، وَكَمَا يُجْعَلُ الْحُلِيُّ فِي النَّارِ فَيُؤْخَذُ خَالَصُهُ وَيُتْرَكُ خَبَثُهُ فِي النَّارِ، فَكَذَلِكَ يَقْبَلُ اللَّهُ الْيَقِينَ وَيَتْرُكُ الشَّكَّ. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً} يَقُولُ: احْتَمَلَ السَّيْلُ مَا فِي الْوَادِي مِنْ عُودٍ وَدِمْنَةٍ، {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ} فَهُوَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالْحِلْيَةُ والمتاع والنحاس والحديث، فَلِلنُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ خَبَثٌ، فَجَعَلَ اللَّهُ مَثَلَ خَبَثِهِ كَزَبَدِ الْمَاءِ، فَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ، وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ الْأَرْضَ فَمَا شَرِبَتْ مِنَ الْمَاءِ فَأَنْبَتَتْ فَجَعَلَ ذَاكَ مِثْلَ الْعَمَلِ الصالح يبقى لأهله، والعمل السيء يَضْمَحِلُّ عَنْ أَهْلِهِ، كَمَا يَذْهَبُ هَذَا الزَّبَدُ، وكذلك الْهُدَى وَالْحَقُّ، جَاءَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَنْ عمل بالحق كان له وبقي كما بقي مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فِي الْأَرْضِ، وَكَذَلِكَ الْحَدِيدُ لَا يُسْتَطَاعُ أَنْ يُعْمَلَ مِنْهُ سِكِّينٌ وَلَا سَيْفٌ حَتَّى يُدْخَلَ فِي النَّارِ فَتَأْكُلُ خَبَثَهُ ويخرج جيده فينتفع به، فكذلك يضمحل الباطل، فإذا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَأُقِيمَ النَّاسُ وَعُرِضَتِ الْأَعْمَالُ فيزيع الباطل ويهلك، وينتفع أهل الحق بالحق.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «إِنَّ مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ منها طائفة قبلت الماء فأنبت الكلأ والعشب الكثير، وكان مِنْهَا أَجَادِبَ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَرَعَوْا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ طَائِفَةً مِنْهَا أُخرى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً؛ فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ اللَّهُ بِمَا بَعَثَنِي وَنَفَعَ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ؛ وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أرسلت به».
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute