للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ جَوَابِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ لِوَلَدِهِ إِبْرَاهِيمَ فِيمَا دَعَاهُ إِلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: {أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ}؟ يَعْنِي إِنْ كُنْتَ لَا تُرِيدُ عِبَادَتَهَا وَلَا تَرْضَاهَا، فاتنه عَنْ سَبِّهَا وَشَتْمِهَا وَعَيْبِهَا، فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَنْتَهِ عَنْ ذَلِكَ اقْتَصَصْتُ مِنْكَ وَشَتَمْتُكَ وَسَبَبْتُكَ، وهو قوله: {لأَرْجُمَنَّكَ}، قاله ابن عباس (وقاله أيضاُ السدي وَابْنُ جُرَيْجٍ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُمْ)، وَقَوْلُهُ: {وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} قال مجاهد: يَعْنِي دَهْرًا، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: زَمَانًا طَوِيلًا، وَقَالَ السُّدِّيُّ {وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} قَالَ: أَبَدًا. وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} قَالَ: سَوِيًّا سَالِمًا، قَبْلَ أَنْ تُصِيبَكَ مِنِّي عُقُوبَةٌ (وَكَذَا قَالَ الضحّاك وقتادة وأبو مالك، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ)، فَعِنْدَهَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ {سَلَامٌ عَلَيْكَ}، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ المؤمنين: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قالوا سلاما}، وقال تعالى: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الجاهلين}، وَمَعْنَى قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ {سَلَامٌ عَلَيْكَ} يَعْنِي: أَمَّا أَنَا فَلَا يَنَالُكَ مِنِّي مَكْرُوهٌ وَلَا أَذًى وَذَلِكَ لِحُرْمَةِ الْأُبُوَّةِ {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي}، ولكن سأسأل الله فِيكَ أَنْ يَهْدِيَكَ وَيَغْفِرَ ذَنْبَكَ، {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: لَطِيفًا، أي في أن هداني لعبادته. وقال قتادة ومجاهد {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} قالا: عودة الْإِجَابَةَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْحَفِيُّ الَّذِي يَهْتَمُّ بِأَمْرِهِ، وقد استغفر إبراهيم صلى الله عليه وسلم لِأَبِيهِ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَبَعْدَ أَنْ هَاجَرَ إِلَى الشَّامِ وَبَنَى الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَبَعْدَ أَنْ وُلِدَ لَهُ إِسْمَاعِيلُ وَإِسْحَاقُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحساب}، وَقَدِ اسْتَغْفَرَ الْمُسْلِمُونَ لِقَرَابَاتِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ في ابتداء الإسلام، حتى أنزل الله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أسوة في إِبْرَاهِيمَ والذين معه إذا قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله - إِلَى قَوْلِهِ - إِلَاّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِّن شَيْءٍ} الْآيَةَ، يَعْنِي إِلَّا فِي هَذَا الْقَوْلِ فَلَا تَتَأَسَّوْا بِهِ، ثُمَّ بيَّن تَعَالَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَقْلَعَ عن ذلك ورجع عنه، فقال تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلَاّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ

إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}، وَقَوْلُهُ: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي} أَيْ أَجْتَنِبُكُمْ وَأَتَبَرَّأُ مِنْكُمْ وَمِنْ آلِهَتِكُمُ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، {وَأَدْعُو رَبِّي} أَيْ وَأَعْبُدُ رَبِّي وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، {عَسَى أَلَاّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيّاً} وعسى هَذِهِ مُوجِبَةٌ لَا مَحَالَةَ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَيِّدُ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>