وَعْدُهُ مأتيا} تأكيداً لِحُصُولِ ذَلِكَ وَثُبُوتِهِ وَاسْتِقْرَارِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ وَلَا يُبَدِّلُهُ، كَقَوْلِهِ {كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} أي كائناً لا محالة، وقوله ههنا {مَأْتِيّاً} أَيِ الْعِبَادُ صَائِرُونَ إِلَيْهِ وَسَيَأْتُونَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ {مَأْتِيّاً} بِمَعْنَى آتِيًا، لِأَنَّ كُلَّ مَا أَتَاكَ فَقَدْ أَتَيْتَهُ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: أَتَتْ عليَّ خَمْسُونَ سَنَةً وَأَتَيْتُ عَلَى خَمْسِينَ سَنَةً كِلَاهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقَوْلُهُ: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً}، أَيْ هَذِهِ الْجَنَّاتُ لَيْسَ فِيهَا كَلَامٌ سَاقِطٌ تَافِهٌ لَا مَعْنًى لَهُ، كَمَا قد يوجد في الدينا، وَقَوْلُهُ {إِلَاّ سَلَاماً} اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، كَقَوْلِهِ: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا تَأْثِيماً إِلَّا قليلا سلاما سلاما}، وَقَوْلُهُ: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} أَيْ فِي مِثْلِ وَقْتِ البُكُرَاتِ وَوَقْتِ العَشِيَّاتِ، لَا أن هناك ليلاً ونهاراً، وَلَكِنَّهُمْ فِي أَوْقَاتٍ تَتَعَاقَبُ يَعْرِفُونَ مُضِيَّهَا بِأَضْوَاءٍ وأنهار، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَلِجُ الْجَنَّةَ صُوَرُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لَا يَبْصُقُونَ فِيهَا وَلَا يَتَمَخَّطُونَ فِيهَا، وَلَا يَتَغَوَّطُونَ، آنِيَتُهُمْ وَأَمْشَاطُهُمُ الذهب والفضة، ومجامرهم الأَلوَّة ورشهم الْمِسْكُ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ يَرَى مُخَّ ساقها مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ مِنَ الحُسْنِ، لَا اخْتِلَافَ بينهم ولا تباغض، قلوبهم على قلب رجل واحد، يسبِّحون الله بكرة وعيشاً» (الحديث أخرجه البخاري ومسلم ورواه أحمد عن أبي هريرة مرفوعاً). وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الشُّهَدَاءُ عَلَى بَارِقِ نَهْرٍ بِبَابِ الْجَنَّةِ، فِي قُبَّةٍ خَضْرَاءَ يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ رزقهم من الجنة بكرة وعيشاً» (رواه الإمام أحمد في المسند". وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} قَالَ: مَقَادِيرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. وقال ابن جرير، عن الوليد بن أسلم قَالَ: سَأَلْتُ زُهَيْرَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} قَالَ: لَيْسَ فِي الْجَنَّةِ لَيْلٌ، هُمْ فِي نور أبداً مِقْدَارُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، يَعْرِفُونَ مِقْدَارَ اللَّيْلِ بِإِرْخَاءِ الْحُجُبِ وَإِغْلَاقِ الْأَبْوَابِ. وَيَعْرِفُونَ مِقْدَارَ النَّهَارِ، بِرَفْعِ الحجب وبفتح الأبواب. وقال قتادة: فِيهَا سَاعَتَانِ بَكَرَةٌ وَعَشِيٌّ، لَيْسَ ثَمَّ لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ، وَإِنَّمَا هُوَ ضَوْءٌ وَنُورٌ. وَقَالَ مجاهد: ليس بُكْرَةٌ وَلَا عَشِيٌّ، وَلَكِنْ يُؤْتَوْنَ بِهِ عَلَى ما كانوا يشتهون في الدنيا. وقوله: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} أَيْ هَذِهِ الْجَنَّةُ الَّتِي وَصَفْنَا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْعَظِيمَةِ هِيَ الَّتِي نُورِثُهَا عِبَادَنَا المتقين، وهم الميطعون لِلَّهِ عزَّ وجلَّ فِي السَّرَّآءِ وَالضَّرَّاءِ، وَالْكَاظِمُونَ الْغَيْظَ وَالْعَافُونَ عَنِ النَّاسِ، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى في سورة المؤمنين: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute