وَهَذِهِ أَيْضًا مِنْ صِفَاتِ عِبَادِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُمْ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ، قِيلَ: هُوَ الشِّرْكُ وَعِبَادَةُ الْأَصْنَامِ، وَقِيلَ الْكَذِبُ وَالْفِسْقُ وَاللَّغْوُ وَالْبَاطِلُ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ: هو اللغو والغناء، وقال عمرو بن قيس: هي المجالس السوء والخنا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} أَيْ شَهَادَةُ الزُّورِ، وَهِيَ الْكَذِبُ مُتَعَمَّدًا عَلَى غيره كما في الصحيحين:«أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ»؟ ثَلَاثًا، قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:«الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الوالدين»، وكان متكئاً فجاس، فَقَالَ:«أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ أَلَا وَشَهَادَةُ الزُّورِ» فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ (أخرجه الشيخان عن أبي بكر رضي الله عنه مرفوعاً)، وَالْأَظْهَرُ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّ الْمُرَادَ لَا يَشْهَدُونَ الزور أي لا يحضرونه، ولهذا قَالَ تَعَالَى:{وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً} أَيْ لَا يَحْضُرُونَ الزُّورَ، وَإِذَا اتَّفَقَ مُرُورُهُمْ بِهِ مَرُّوا وَلَمْ يَتَدَنَّسُوا مِنْهُ بِشَيْءٍ، وَلِهَذَا قال:{مَرُّوا كِراماً}، وروى ابن أبي حاتم عن مَيْسَرَةَ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ مَرَّ بِلَهْوٍ مُعْرِضًا فَلَمْ يَقِفْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«لَقَدْ أَصْبَحَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَمْسَى كَرِيمًا» ثُمَّ تَلَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْسَرَةَ: {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً}، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً} وهذه أيضاً مِنْ صِفَاتِ
الْمُؤْمِنِينَ {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} بِخِلَافِ الْكَافِرِ، فَإِنَّهُ إِذَا سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ لا يؤثر فيه، ولا يتغير عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ، بَلْ يَبْقَى مُسْتَمِرًّا عَلَى كفره وطيغانه، وجهله وضلاله، كما قال تعالى:{وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ}، فَقَوْلُهُ:{لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً} أَيْ بخلاف الكافر الذي إذا سمع آيات الله فلا تؤثر فيه فيستمر عَلَى حَالِهِ كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا أَصَمَّ أَعْمَى، قَالَ مُجَاهِدٌ قَوْلُهُ:{لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً} قال: لَمْ يَسْمَعُوا وَلَمْ يُبْصِرُوا وَلَمْ يَفْقَهُوا شَيْئًا، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: كَمْ مِنْ رَجُلٍ يَقْرَؤُهَا ويخر عليها أصم أعمى، وقال قتادة: لَمْ يَصِمُّوا عَنِ الْحَقِّ وَلَمْ يَعْمَوا فِيهِ، فهم والله قوم عقلوا عن الحق وانتفعوا بما سمعوا من كتابه.
وقوله تَعَالَى:{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} يَعْنِي الَّذِينَ يَسْأَلُونَ الله أن يخرج من أصلابهم من ذرياتهم مَنْ يُطِيعُهُ وَيَعْبُدُهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، قال ابن عباس: يعنون من يعمل بطاعة الله فتقر به أعينهم في الدنيا والآخرة، قال عِكْرِمَةُ: لَمْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ صَبَاحَةً وَلَا جَمَالًا، ولكن أرادوا أن يكونوا مطيعين. وسئل الحسن البصري عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: أَنْ يُرِيَ اللَّهُ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ مِنْ زَوجَتِهِ وَمِنْ أَخِيهِ وَمِنْ حميمه طاعة الله، لا والله لا شَيْءٌ أَقَرَّ لِعَيْنِ الْمُسْلِمِ مِنْ أَنْ يَرَى وَلَدًا، أَوْ وَلَدَ وَلَدٍ، أَوْ أَخَا أَوْ حَمِيمًا مُطِيعًا لِلَّهِ عزَّ وجلَّ. وَقَالَ ابْنُ