من الحيات أسرعه حركة وأكثره اضطراباً، فَلَمَّا عَايَنَ مُوسَى ذَلِكَ {وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} أَيْ لَمْ يَلْتَفِتْ مِنْ شِدَّةِ فَرَقِهِ {يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} أَيْ لَا تَخَفْ مِمَّا تَرَى فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَصْطَفِيَكَ رَسُولًا، وَأَجْعَلَكَ نَبِيًّا وجيهاً، وقوله تعالى: {إِلَاّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ وَفِيهِ بِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ لِلْبَشَرِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ كان على عمل سيء، ثم أقلع عنه ورجع وتاب وَأَنَابَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهتدى}، وقوله تَعَالَى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} هَذِهِ آيَةٌ أُخْرَى وَدَلِيلٌ بَاهِرٌ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ وَصِدْقِ مَنْ جَعَلَ لَهُ مُعْجِزَةً، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُ أَنْ يُدْخِلَ يَدَهُ فِي جَيْبِ دِرْعِهِ، فَإِذَا أَدْخَلَهَا وَأَخْرَجَهَا خَرَجَتْ بَيْضَاءَ سَاطِعَةً كَأَنَّهَا قطعة قمر، لها لمعان تتلألأ كالبرق الخاطف، وقوله تعالى: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ} أَيْ هَاتَانِ ثِنْتَانِ مِنْ تِسْعِ آيَاتٍ، أُؤَيِّدُكَ بِهِنَّ وَأَجْعَلُهُنَّ بُرْهَانًا لَكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ} وهذه هي الآيات التسع التي قال تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} كما تقدم تقرير ذلك هنالك، وقوله تعالى: {فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً} أَيْ بَيِّنَةً وَاضِحَةً ظاهرة {قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ} أَيْ عَلِمُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّهَا حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَلَكِنْ جَحَدُوهَا وَعَانَدُوهَا وَكَابَرُوهَا {ظُلْماً وَعُلُوّاً}، أي ظلماً من أنفسهم {وَعُلُوّاً} أَيِ اسْتِكْبَارًا عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَلِهَذَا قال تعالى: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} أَيِ انْظُرْ يَا مُحَمَّدُ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ أمرهم في إهلاك الله إياهم، وفحوى الخطاب، يقول: احذروا أيها المكذبون لمحمد الْجَاحِدُونَ لِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ رَبِّهِ، أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، فَإِنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم أَشْرَفُ وَأَعْظَمُ مِنْ مُوسَى، وَبُرْهَانُهُ أَدَلُّ وَأَقْوَى من برهان موسى، عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute