للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ

قَدْ تقدم أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَضَى أَتَمَّ الْأَجَلَيْنِ وأوفاهما وأبرهما وأكملهما (هو عشر سنين على رأي الجمهور وقال مجاهد عشر سنين وبعدها عشر أخر رواه عن ابن جرير). قوله: {وَسَارَ بِأَهْلِهِ} قَالُوا: كَانَ مُوسَى قَدِ اشْتَاقَ إلى بلاده وأهله، فعزم على زيارتهم خُفْيَةٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، فَتَحَمَّلَ بِأَهْلِهِ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ الْغَنَمِ الَّتِي وَهَبَهَا لَهُ صِهْرُهُ، فَسَلَكَ بِهِمْ فِي لَيْلَةٍ مَطِيرَةٍ مُظْلِمَةٍ باردة، فنزل منزلاً فجعل كل ما أَوْرَى زَنْدَهُ لَا يُضِيءُ شَيْئًا فَتَعَجَّبَ مِنْ ذلك، فبينما هو كذلك {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} أَيْ رَأَى ناراً تضيء على بعد {فقال لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً} أَيْ حَتَّى أَذْهَبَ إِلَيْهَا {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ} وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ أَضَلَّ الطَّرِيقَ {أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النار} أي قطعة منها {لعلها تَصْطَلُونَ} أي تستدفئون بِهَا مِنَ الْبَرْدِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ من شاطئ الوادي الْأَيْمَنِ} أَيْ مِنْ جَانِبِ الْوَادِي مِمَّا يَلِي الْجَبَلَ عَنْ يَمِينِهِ مِنْ نَاحِيَةِ الْغَرْبِ، كَمَا قال تعالى: {ومآ كنت بجانب الغرب إِذْ قَضَيْنَآ إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ} فَهَذَا مِمَّا يُرْشِدُ إِلَى أَنَّ مُوسَى قَصَدَ النَّارَ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَالْجَبَلُ الْغَرْبِيُّ عَنْ يَمِينِهِ وَالنَّارُ وَجَدَهَا تَضْطَرِمَ فِي شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ، فِي لَحْفِ الْجَبَلِ مِمَّا يَلِي الْوَادِيَ فَوَقَفَ بَاهِتًا فِي أمرها فناداه ربه {أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} أَيِ الَّذِي يُخَاطِبُكَ وَيُكَلِّمُكَ هُوَ {رَبُّ العالمين} الفعال لما يشاء، تعال وَتَقَدَّسَ وتنزَّه عَنْ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ، فِي ذَاتِهِ وصفاته وأقواله وأفعاله، وَقَوْلُهُ: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} أَيِ الَّتِي فِي يدك، كما في قوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى؟ قَالَ هِيَ عَصَايَ أتؤكأ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى}، وَالْمَعْنَى: أَمَّا هَذِهِ عَصَاكَ الَّتِي تَعْرِفُهَا {أَلْقِهَا فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى}، فَعَرَفَ وَتَحَقَّقَ أن الذي يكلمه ويخاطبه هو الذي يقول للشيء كن فيكون. {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ} أَيْ تَضْطَرِبُ، {كَأَنَّهَا جَآنٌّ ولى مُدْبِراً} أي في حركتها السريعة مع عظم خلقتها واتساع فمها، واصطكاك أنيابها بحيث لا تمر بصخرة إلا ابتلعها تنحدر فِي فِيهَا، تَتَقَعْقَعُ كَأَنَّهَا حَادِرَةٌ فِي وَادٍ، فَعِنْدَ ذَلِكَ، {وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ} أَيْ ولم يَلْتَفِتُ لِأَنَّ طَبْعَ الْبَشَرِيَّةِ يَنْفِرُ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا قَالَ اللَّهُ لَهُ: {يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} رَجَعَ فَوَقَفَ في مقامه الأول، قال الله تعالى: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} أَيْ إِذا أَدْخَلْتَ يَدَكَ فِي جَيْبِ دِرْعِكَ ثُمَّ أَخْرَجْتَهَا فَإِنَّهَا تَخْرُجُ تَتَلَأْلَأُ كَأَنَّهَا قِطْعَةُ قَمَرٍ فِي لَمَعَانِ الْبَرْقِ، وَلِهَذَا قَالَ {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ}: أَيْ مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ. وقوله تعالى: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} قَالَ مُجَاهِدٌ: مِّن الفزع، وقال قتادة: من الرعب مِمَّا حَصَلَ لَكَ مِنْ خَوْفِكَ مِنَ الْحَيَّةِ؛ والظاهر أَنَّهُ أُمِرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا خَافَ مِن شَيْءٍ إِنْ يَضُمَّ إِلَيْهِ جَنَاحَهُ مِنَ الرَّهْبِ، وهو يَدُهُ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ ذَهَبَ عَنْهُ مَا تجده مِنَ الْخَوْفِ، وَرُبَّمَا إِذَا اسْتَعْمَلَ أَحَدٌ ذَلِكَ على سبيل الاقتداء فوضع يده على فؤاده، فإنه يزول عنه ما يجده. عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ مُلِئَ قَلْبُهُ رُعْبًا مِنْ فِرْعَوْنَ، فَكَانَ إِذَا رَآهُ قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَدْرَأُ بِكَ في نحره، وأعوذ بك من شره» فنزع اللَّهُ مَا كَانَ فِي قَلْبِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَجَعَلَهُ فِي قَلْبِ فِرْعَوْنَ فَكَانَ إِذَا رآه بال كما يبول الحمار (رواه ابن أبي حاتم عن مجاهد). وقوله تعالى: {فَذَانِكَ

<<  <  ج: ص:  >  >>